تمثل القراءة الواردة ضمن هذا التقرير حدث تاريخي ذا أهمية كبرى و انجاز علمي حضاري يتم تحقيقه لأول مرة في تاريخ الإسلام يضع الدين في إطاره الشرعي كعلم قائم الذات غني عن أي تبعية كانت مكتف بذاته مستقل بوحدته وشموليته يخاطب العقل بالدرجة الأولى موفرا لمن يهمه الأمر مرجعا وحيدا ذا أبعاد كونية ومصدرا للثقة و المصداقية. ليس من الصعب على العقل الواعي و المتبصر أن يعي أبعاد هذا التمويل المعرفي الرائد و يعتمده كأعظم مشروع حضاري وضع على ذمة البشرية جمعاء قصد إعانتها على مواجهة مؤسستها بأوفر حظوظ النجاح.
هذا التمويل الرفيع المستوى يفرض على كل فرد في هذه الأمة الاستفاقة و اليقظة و مراجعة أوضاعه و تطوير وسائله بما يكفل انطلاقته نحو الأفضل و المبادرة الفعلية و المسؤولية في بناء الحضارة الإسلامية الشرعية التي لم يقع انجازها و لم تتوفر بعد شروط بناءها التي من أهما الدرجة الرفيعة من الوعي قاعدة الانطلاق و الانجاز للنمط الحضاري المرتقب.
بالإضافة لهذه القراءة فقد توفر عنصر جديد و هو تطور مستوى الوعي مما يجعل عملية الشروع في بناء حضارة الإسلام ممكنا نظرا لقدرة العقل على التحرر من مكبلات القراءات التقليدية و طاغوتها على المدارك وتركيز اهتماماته حول الأساليب العلمية والطرق المنطقية التي تبني الاستنتاجات الصلبة و المنيعة.
نحن نعلم إن البناء العقائدي المعتاد يرتكز على الأساليب التلقينية القديمة ويستعين بمجموعة من الظواهر النفسية الحاسمة مثل ظاهرة العلق أ و التعلق , الإيحاء الذاتي ،التكيّف ثم التطبّع الذي يتطور لدى الكثير من رجال الدين إلي مرحلته القسوة وهو التطرف و الانغلاق ليتحول أحيانا إلى طاغوت عقائدي يستحوذ على البصائر ليكبلها و يقعدها عن الحركة ويسلبها حريتها و قدرتها على النمو و التحول .
الطريقة التلقينية بأسلوبها القديم فرضت نفسها على جميع الناس تقريبا و لعبت دورا ايجابيا تمثل في بناء و تركيز المجتمع الإسلامي و ضمان توازنه العقائدي و الوجداني. لكن مع الزمان و التطور تحرك العقل وتحركت بصيرة المنطق وبرزت الأسئلة الصعبة و المحرجة مطالبة بحقها المشروع في الفهم و الإدراك أي عقلنه العقيدة بتطوير الوسائل التعليمية و جعلها مطابقة للقناعات الذاتية مصدر توازن الفرد و المجتمع.
المرجعيات الدينية لم تكن على المستوى الذي يمكنها من مواجهة ذلك النوع من التطور فوقع ما وقع من صدام و تفكك ثم انهيار.الإسلام قد تهيأ منذ بدايته لحماية العقل ووفر له كل احتياجاته و ضمان توازنه العقائدي عن طريق أساليب علمية منطقية متطورة للغاية لكن أهل الذكر لم يستوعبوا تلك الخاصيات العلمية وضلوا متشبثين بطرقهم و أساليبهم.
القراءة التي يقدمها هذا التقرير سوف تصطدم بموقف الرفض التلقائي من طرف العديد من علماء الإسلام إذا لم يتحرروا من طاغوت القراءة التقليدية و يبادروا بتطوير وسائل عملهم و مراجعة رصيدهم المعرفي وتخليصه من مكبلات الطريقة البنيوية القديمة ليساهموا في تحقيق انطلاقة الأمة نحو الأفضل.هذا الأمر يجعل هذه القراءة ترتكز شبه كليا على الطبقة النيرة المتعلمة و التي تتمتع بحرية و بتولة فكرية تمكنها من مواجهة متطلبات جديدة وتوفير ركائز صلبة لمشروع البناء الحضاري المرتقب وترتكز بالأخص على شباب أمتنا الذي يجد ضمن هذه القراءة ما كان يبحث عنه من وسائل تنمية و رقي حضاري يدفع الأمة الإسلامية و البشرية إلى أرقى مستويات التطور و التحضر باعتماد أساليب الإسلام ذاتها وهي الحكمة و التبصر و الوعي والتطبيق الحرفي للقيم الأخلاقية النبيلة مصدر القوة و الفاعلية وترك الفوضى و الغطرسة و الرفت و العنف و التطرف أسباب الضعف و الفشل و الخيبة.
القرآن الكريم هو رمز التطور و التحول الدائم و الحركية و الرقي المتواصل يلزم العقل باليقظة الدائمة
و الاستفاقة والتحسب من أي تحول يطرأ على المفاهيم و موازاتها بفطنة ومسايرة نسق رقيها . ولعل ابلغ مثال على ذلك هو ما ورد في قوله تعالى :
« وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ »
الذاريات 56
القراءة الأولى البدائية و التلقائية تركز على أداة الاستثناء ‘إلا’ لتفيد أن الهدف الأساسي من خلق البشر هو عبادة الله وقد حققت هذه القراءة غايتها و ساهمت في تركيز التوازن العقائدي المتين لدى الأجيال الأولى.
بمرور الزمن و نمو المدارك و تطور الملكات الفكرية واتساع آفاقها تحتم مراجعة قراءة الآية الكريمة لأن مفهومها أصبح يتعارض منطقيا مع أعظم وأهم اسم من أسماء الله الحسنى وهو ‘ الغني ‘ والذي يقر باكتفائه الذاتي بصفة المطلق فهو عز وجل لا يحتاج أبدا و لا يخضع للحاجة مهما كان نوعها لأن الاحتياج ينسف الربوبية جملة. هنا يدرك العقل إدراكا تاما بأنه لا حاجة لله في إيمان الإنسان بوجوده و لا لعبادته أو لمحبته أو لصلاته أو لصومه الخ.., وهنا تتغير بل تتحول قراءة الآية بالتخلي عن التركيز على أداة الاستثناء ‘إلا’ و التأكيد على أداة النفي ‘ما’ وذلك التركيز يكون صوتيا
يدل بوضوح تام على المفهوم المنطقي الذي يفيد بأن الهدف من خلق الإنسان ليس عبادة الله .
» و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدوني »
التغيير الجذري لمفهوم الآية يدل على حتمية تحول تفكير المسلمين وانتقالهم من مرحلة التقليد الحرفي لتقاليد السلف واعتماد الدغمائية طريقة التلقين والتسليم بما تفرضه من مفاهيم إلى طور حضاري جديد. وذلك التحول يرتكز على العقل وأساليب البحث العلمي و الاستنتاج المنطقي المصدر الحاسم في تطور و نمو المجتمع الإسلامي و تحوله الدائم عبر مختلف مراحل الرقي أي ضمان حيويته و حركته المستمرة عبر مختلف الأزمنة و العصور دون السقوط في خلفية الركود القاتل كما وقع له سابقا.
التغيير الذي حدث عن طريق تلك الآية أحدث ثورة في المفاهيم الأساسية حيث قدر العقل على تحويل العبادات المكتوبة من إطار الطقوس أي إطار الأوامر و النواهي و الفرائض المجردة إلى مفهومها العلمي و المنطقي كقوانين علمية تطبيقية كونية يرتكز عليها وجود الإنسان جملة و تفصيلا.
هنا نتساءل هل أن التفكير الإسلامي في عصرنا هذا قادر على التخلص من قيوده و مكبلات تقاليده والأخذ بناصية العلم وأساليبه المنطقية واقتحام الرصيد المعرفي الضخم الذي وضعه القرآن كأعظم و أرقى مشروع حضاري وجد في الكون على ذمة أمتنا؟ هل حان موعد انطلاق هذه الأمة وشروعها في بناء حضارة إسلامية أصبحت اليوم قبل أي وقت مضى في متناول أيديهم؟