قرار الإسلام هو الموقف الذي يفرزه ميول النفس و رغبتها الشديدة في وجود الله وتعلّقها به كوليّ و كحكم فهو الخطوة الأولى على طريق الهدى حيث لا يمكن اعتباره إيمانا و إنما مجرد استعداد لخوض مغامرة الإيمان الطويلة النفس و الصعبة المراس.
« قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ… »
الحجرات 14
في إطار الإسلام تكون فكرة وجود الله و النشور و الحساب في طورها البدائي هشة مترددة ضبابية تراودها الشكوك من كل صوب مما يستوجب دعمها وتنميتها و حمايتها من كل شائبة وتحويلها الي عقيدة قوية صلبة قادرة على مواجهة كل التحديات والى مشروع حقيقة وقاعدة عمل و تطور توجه الموقف و التفكير و الحركة أي المنطلق الثابت لحياة الإنسان و مصدر فلاحه. ليس من السهل القيام بهذه المهمة و تحقيق ذلك التحّول العظيم نظرا لتواضع الوسائل المتوفرة لدى الفرد.
تعهد ت التعاليم الدينية بمساعدة الإنسان بوضع كل الوسائل الضرورية لبناء العقيدة الصلبة و المنيعة و سخرت أعظم القوانين العلمية الكونية فاعلية و المختصة في بناء العقيدة الأساسية وهي الصلاة و التي وردت في شكل أمر و فريضة لا في إطارها الشرعي كقانون علمي عملي كوني مختص في استغلال مكونات الفرد من الناحية النفسية و الفكرية و بناء العقيدة الثابتة.
الخاصيات العلمية للصلاة
تطبيق الصلاة يشترط استعدادا ثلاثيّ الأبعاد يخص الجسد عن طريق الغسل و الوضوء المنشط للأعصاب و الحركة الدموية ثم النفس بوضعها في حالة تأهب قصوى و مواجهتها ميدان روحي يرتكز على مؤثرات قوية تحرّك مشاعر الرّهب و الرّغب و المحبّة و الطّمع و الأمل ثم العقل بوضعه في حالة استعداده للحوار مع الله العظيم و مخاطبته و التحدث إلية و مناجاته بكل ثقة و أمان في جوّ قدسيّ ملؤه الخشوع.
تؤدّى الصلاة في إطار الحوار القدسي بين العبد و مولاه العظيم حيث يخاطب الإنسان ربّه و ينيب إليه طلبا لعونه و فظله و لطفه و رحمته يسأله التوبة و الهدي و الاستقامة و الصّلاح و الفلاح ضمن الفاتحة السبع المثاني والملزمة لأخلاق الحوار و آدابه ثم السورة القرآنية كلام الله و رده على مخاطبه منبع الحكمة و الموعظة الّرّبانية و الذي يتحقق على لسان الخاشع المتبتل ذاته.
حقيقة و جود الله شديدة الوقع على المدارك صعبة المنال بعيدة تتطلب السفر إليها ومواجهة ضارية لكل الصعوبات التي تنطلق منذ البداية.
الصلاة تبني الحوار وتفرضه على كافة المدارك مثيرة مخاضا هائلا تشارك فيه النفس بجميع مؤهلاتها والعقل بكل ما أوتي من مواهب و ملكات.بمجرد أن يتخيل المصلي مخاطبه العظيم ويسعى لدعم ذلك الحوار القدسي بما يستحق من واقعية و مصداقية تنطلق المجابهة العنيفة بين العناصر المؤيدة والمعارضة الشديدة التي تتزعمها بصيرة المنطق المادية بطبعها التي تكذب وتفند وتسخر من موقف تراه سخيفا ساذجا واحتمالا لا يستند لأي دليل أو برهان ما دامت لا ترى أي أثر مادي للمخاطب الزعوم. الهجوم المفاجئ لبصيرة المنطق يثير التدخل القوي لمجموعة الظواهر النفسية التي تحركها مؤثرة الرهب و الخوف من غضب الله و نقمته و عذابه و مؤثرة الرّغب و المحبّة و الطّمع و الأمل في النّجاة و الفوز برضي الله و جنّته فتنذر و تتوعد من مغبة التكذيب و الكفر مساندة لشرعية الحوار و أحقيته ساخرة من سذاجة بصيرة المنطق و عتوّها ووقوعها في شرك تكذيب افتراض وارد جدا دون تقديم أي أثر لدليل يثبت ما تدّعيه ضاربة عرض الحائط التزامها بالحياد أساس شرعيتها.
التدخّل الشديد للظواهر النفسية يحطم شوكة بصيرة المنطق التي تدرك ّمدى تورطها فتتراجع عن غيها متسللة ذليلة فتنتصر مشاعر الرّهب و الرّغب وتضع ذرة تليها ذرّات عديدة أخرى تساهم في بناء صرح العقيدة الدينية.
بمرور الأيام و الممارسة المنتظمة للصلاة يتواصل البناء. ذلك القانون العلمي الكوني العظيم يجنّد مجموعة من الظواهر النفسية الشديدة الفاعلية ويستغلها أفضل استغلال لبناء عقيدة قوية ثابتة إلى حدّ اليقين.من ضمن تلك الظواهر نجد على سبيل المثال لا الحصر الإيحاء الشخصي أبرز تقنيات الإقناع الذاتي ,ظاهرة العلق أو التعلق بذات الله ومحتوى الميدان الديني التي تنمي مشاعر المحبة والإخلاص و التمسك بعزيمة السعي نحو الفلاح و كل ما يرضي الرّحمان ضمن نسيج النفس ثم ظاهرة التكيّف التي تجعل المعني بالأمر يتعوّد على قدسيا ته و يستأنس بها كجزء لا يتجزأ من كيانه و وجدانه لتنصهر في صلب عاداته و تقاليد ه اليومية .كل تلك الظواهر النفسية الحاسمة تتحرك و تشتغل و تنجز عن طريق الصلاة التي بتواصلها و انتظامها يزداد صرح العقيدة متانة و وثوقا ليبلغ في النهاية درجة اليقين. في كل صلاة ينجز المؤمن خطوة إلى الأمام تقرّبه إلى الحقيقة الكبرى حتى يدركها بسعيه الدءوب و مثابرته و عزيمته الراسخة .في كل صلاة تتراجع عناصر الرفض و التكذيب لتتخلى نهائيا عن موقفها و تلتزم بحيادها ثم مع الأيام تستأنس بالجو القدسي فتستحسنه و تتعلق به و تسانده و تساهم في مآزرته ودعم مصداقيته بوسائلها الخاصة متأثرة بمفعول تلك الظواهر النفسية الرائدة التي قدرت على احتوائها و التصرف فيها عن طريق الصلاة تلك الرائعة الكونية التي قدرت على تحويل الاحتمال المجرد لوجود الله إلى مشروع حقيقة ثم إلى حقيقة ثم إلى يقين ثابت لا يقبل النقاش.هكذا تتحقق المعجزة لتجعل الإنسان يجند كل طاقاته و يسعى رويدا رويدا و بانتظام للاقتراب من الحقيقة الكبرى حتى يدركها و يفوز بها عن جدارة ليثبت أنه جدير بثقة الله و رضوانه و أنه أهل للدخول في طريق الهدى . وهكذا تتحقق إرادة الله العظيم الذي حجر الإيمان على كل من تجبّر و طغى .
للحفاظ على مصلحة المؤمن و ضمان نجاحه سعت التعاليم الدينية لتوفير القواعد التطبيقية لقانون الصلاة حتى يبلغ أهدافه و من ضمنها الخشوع و اليسر و الانتظام في الممارسة و مراعاة التّوزيع الزمني.
« …إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا »
النساء 103
لا سبيل لترك الصلاة إلا عند فقدان الوعي و قد تحتم أداءها مهما كانت الظروف و الأحوال ذلك لأن ترك صلاة واحدة يمكن أن يؤدي إلى ترك صلوات عدّة و ذلك يعني حتما اختلال البناء و انهياره و الرجوع إلى نقطة السفر لأن الإيمان مهما قوي يضل دائما متأرجحا ومعرضا للانهيار و التلاشي حيث يقول الرسول صلى الله عليه و سلم :
» بين الرّجل و بين الكفر ترك الصلاة »
المبادرة بممارسة الصلاة منذ الصغر تمكن المسلم من الاستغلال الأفضل للظواهر النفسية المعنية بالبناء العقائدي وهي في أفضل مراحل عطاءها و إنتاجها و فاعليتها. كلما تقدّم الإنسان في السن كلما كانت عملية البناء العقائدي أصعب و أطول وأقل تأثيرا و رسوخا.
بالإيمان يرتبط الإنسان بربه الكريم ارتباطا متواصلا و يضع حياته في إطارها الشرعي فيسعى بحزم و عزم لتحقيق أعلى مراتب الفلاح و الفوز أي الهدف الأعظم و المتمثل في زكاة النفس و طهرها و بلوغها أرقى درجات الرفعة أي مثالية الخلافة شرط دخولها الجنة و بذلك لا يكون الإيمان هدفا نهائيا بل هدفا وسيلة يدفع المؤمن بقوة و ثبات لتحقيق الهدف الأسمى المشار إليه.
لا يمكن للمسلم أن يتصور أنه قد ضمن نجاته بمجرد امتلاكه للإيمان الذي تعتبره التعاليم مرحلة عظيمة و قاعدة أساسية لا غنى عنها وهدف قائم يتحوّل بدوره إلى وسيلة عمل و إنتاج تفتح باب المرحلة التنموية الحاسمة لتحقيق الهدف الأعظم أي زكاة النفس و طهرها الشامل أساس عزتها و رفعتها.
« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا »
الشمس 9-10
أهم ما يجب أن يتفطن إليه القارئ المتبصر للقرآن الكريم هو ذلك الارتباط العضوي بين الإيمان و تزكية النفس.كلما ذكر الإيمان إلا و ذكر معه مباشرة العمل الصالح. لا يمكن للتعاليم الإسلامية التي بنت صرحها بهذه الدّقة الحسابية أن تقبل بفشل مسلم وفّرت له كافة وسائل النجاح. و إذا ما حدث هذا الفشل فذلك يدل قطعا عن وجود اختلال و ارتباك وخلط في القراءة أي في الفهم و الإدراك. إذا قدر المسلم على إدراك الإيمان و لم يتمكن من امتلاك كافة القيم الأخلاقية المطهرة للنفس أي للمواقف و السلوك فذلك يعني الفشل و الخيبة.
مشروع التزكية
لقد تطورت و ارتفعت درجة وعينا بما يكفي للتثبت من ضخامة التمويل الإسلامي ومدى دقته في تحديد الوسائل و ضبط الأهداف مما يجعلنا ندرك مدي خطورة الأخطاء التي ذهبت ضحيتها أجيال عديدة من المسلمين و التي تسببت في تخلف أمتنا الحالي و يمكّننا خاصة من تدارك أمرنا و إعادة بناء صرحنا طبقا لما ورد في كتاب الله من تمويل علمي حضاري عظيم.
البناء الشرعي والعلمي و المنطقي لحضارة الإسلام يبدأ اليوم و يرتكز كليا على القراءة الميسّرة التي نحن بصدد وضعها في إطارها المنطقي كمرجع أساسي و كقاعدة و منطلق ثابت لمشرع حضاري تنموي يرفع أمة الإسلام إلى أعلى درجات الوعي و التطور و الرقي.
كل ما أوردته هذه القراءة إلى حد الآن من تحاليل هي مرحلة توطئة و إعداد للتفكير تمكّنه من اقتحام ميدان العمل و الانجاز و البناء لمشروع النهضة و التطور الحضاري المنشود بأوفر حظوظ ممكنة. أهم الوسائل التي يرتكز عليها فلاح الفرد و الأمة على السواء هو العنصر التنموي الذي سخرت له التعليم الإسلامية كل أسباب النجاح والذي نتناوله بالدرس مباشرة وهو بالطبع مشروع التزكية ورفع مستوى النفس إلى أعلى درجات الطهر مفتاح الحل و الرّبط .
لا يعبأ المولى عز و جل بغرور المضاربين إذا ما استحبّوا الباطل و تنكروا إلى الحق الذي بني عليه المشروع الرّباني بأسره والذي يسير حسب إرادته ليبلغ أهدافه أحبّ من أحبّ و كره من كره .في يخص العنصر البشري فان الهدف يتمثل في استخلاص الثلة المؤهلة شرعيا لوراثة الكون في نشأته الثانية نشأة الطهر و الكمال كما ورد في قوله تعالى :
« …وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ »
آل عمران 133
السماوات و الأرض التي سوف يعيدها الله كما بدأها هي مليارات المجرّات و في كل مجرة مليارات من النظم الشمسية ترثها الثلة البشرية التي تطهّرت و ارتفعت و حققت لنفسها مثالية الخلافة و تخلصت نهائيا و كليّا من أدنى رذيلة.
التزكية الشاملة هو الهدف الأعلى الذي يتحتّم على الإنسان إدراكه إذا أراد الفوز بجنّة الرحمان و ضمان سلامته خلال حياته الدنيا بعد أن حقق لنفسه الإيمان أعظم المؤثرات وأقدرها دفعا و فاعلية للعزيمة و الإرادة الذاتية. الإيمان يوضّح المسار الذي وجب إتّباعه و الهدف الذي تحتّم تحقيقه. لكن هذا المخلوق ضعيف وسائله متواضعة و مداركه لا تخوّل له التقييم العلمي الصحيح لمكونات النسيج النفسي المعقد جدا و لا كذلك إمكانية التصرف و الاستغلال القويم للظواهر النفسية المستحيلة الترويض.
ذلك الضعف تغطيه التعاليم الربانية بما توفره من وسائل علمية عملية تيسر على الإنسان سعيه و تطوره و رقيه عبر مختلف مراحل التزكية و التطهر.
في مقدمة تلك الوسائل تقترح التعاليم تطبيق قانون الزكاة.
قانون الزكاة
المحتوى اللّغوي لكلمة زكاة يعبّر بوضوح تام على الغرض الذي كتبت من أجله وهو التطهّر و الارتفاع بالنفس إلى أعلى مراتب التحضر عن طريق القيم الأخلاقية السامية فقد تجاوزت التعاليم لفظة العطاء وهو المدلول المنطقي للحركة وركزت على لفظة زكاة تأكيدا للهدف المقصود وقد يلاحظ المرء أن نفس الموقف ينطبق على كلمة صدقة.
تقنيات الزكاة
الفقير الذي يمد يده مستعطفا متلطفا يسأل العون و العطاء السخي يثير في النفس حركية لابأس بها فتبرز مشاعر الرأفة و الرحمة و المحبة والتآخي و العطف والعون و التآزر والكرم والسخاء مشاعر خير تنتمي إلي الفضائل السامية لتأمر صاحبها بالعطاء وفي نفس الوقت تبرز مجموعة أخرى مغايرة تماما لسابقاتها وهي الأنانية و القسوة و الغلظة وعدم الاكتراث و البخل و الاحتقار والشماتة و الشح أي رذائل النفس التي تتدفق بعنف معارضة إرادة العطاء متمسكة برفضها التلقائي. ذلك الموقف يحدث حركية و مخاضا هائلا و صراعا عنيفا بين فضائل النفس و رذائلها.
إذا انتصرت الفضائل و أفتكت زمام المبادرة تحقق العطاء و العون أما إذا قدرت الرذائل على الهيمنة كان الرفض. ذلك المخاض و الخصام و التصادم يقع خلال فترة و جيزة جدا في أقل من ثانية ليحدد قيمة الشخص و يساهم في بناء مصيره. إذا تواصل انتصار الفضائل نمت قدرتها و هيمنتها و ازدادت قوة و متانة و فاعلية و قدرت على دحر الرذائل و تحييدها ثم تخليص النسيج النفسي من تأثيرها بل من وجودها كليا.أما إذا انتصرت الرذائل في كل مناسبة حدث العكس تماما و تحققت الكارثة.
موقف التعاليم الدينية في هذا الميدان حاسم و مصيري فهي تأمر المؤمن بل و تفرض عليه العطاء و السخاء و العون قصد دعم و مساندة الفضائل وجعل المعني بالأمر يجني كافة العناصر الايجابية و ترويضها و اكتسابها ثم الاعتماد علي تأثيرها في كل مناسبة كي يتخلص من عدوه اللدود وهي الرذائل المدمرة للمصير. المعني بالأمر في عملية الزكاة هو المتصدق الذي يعطي ماله لا الفقير الذي يتقبل الصدقة والذي يكتفي بدور المساهمة و الإثارة فحسب.الرابح الأول هو المتزكي الذي يحقق لنفسه تحولا عظيما تعجز على تحقيقه أي وسائل أخرى و إن اجتمعت.
التطبيق المنتظم لقانون الزكاة يفرض على الفضائل تدعيم دورها و حركيتها و هيمنتها التلقائية في جميع المناسبات وانفرادها بالمبادرة و قدرتها التامة على نسف أي أثر للرذائل إلي أن يصبح عملها تلقائيا آليا لا يتطلب تفكيرا أو اختيارا. عندما تكون حركة العطاء و العون آلية تلقائية يكون المؤمن قد غنم شبه نهائيا مجموعة عظيمة من الفضائل التي تأطّر الإرادة و تدعم سعيها نحو الهدف المنشود.
قواعد التطبيق
لقد وضعت التعاليم الدينية مجموعة من القواعد التي تحفظ قانون الزكاة من كل خطا وتضمن نتائجه وهي على التوالي :
« لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ… »
آل عمران 92
النفقة من الأشياء القيّمة هي وحدها القادرة على إثارة النفس و تحريك سواكنها و دفع المشاعر نحو حلبة النزاع و الصراع الذي ينتجع عنه القرار عكس الأشياء الرخيصة التي لا تهم أحدا ولا تحرك ساكنا ولا تغيّر شيئا في النفس.
« …وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ… »
البقرة 267
التصدق بالأشياء الخبيثة خطير للغاية لأنه ينمي الرذائل مثل الكراهية و الاحتقار والتكبر و الاستعلاء و الغرور والأنانية والسخرية و الازدراء وهي مصائب جمّة إذا علقت بالنفس دمرتها و نزلت بها إلى أسفل الدرجات.
« …لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ… »
البقرة 264
لا يجني المتصدق الممنّ من صدقته إلا المنّة والأذى أو الرياء و الافتخار بنفسه فتقف صدقته عند تلك المقاصد الوضيعة و لا تمكنه من تحقيق الغرض الأساسي و المتمثل في تطوير المدارك النفسية وامتلاك الفضائل عناصر النمو و الرقي و الفلاح.
الصدقة و الزكاة و العطاء السخي لا تخص الأغنياء وحدهم بل تنطبق على المؤمنين كافة و دون استثناء حيث لا تقيّم الصدقات بكميتها و قيمتها المادية بل بمدى تأثيرها على المعني بالأمر من الناحية النفسية وما تحركه فيه من مشاعر.
يتصدّق الغني بآلاف الدنانير و يتصدّق الفقير بدراهم قليلة ويضل التأثير ذاته الذي ينطبق على الأول و الثاني دون تغيير يذكر ويفوز كلاهما بنفس النتائج و تلك حكمة الله في جعل كل شيء في هذه الحياة يسير طبق الغايات التي حددتها مشيئته.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم :
« تصدّقوا و لو بشقّ تمرة «
قانون الصوم
تمثل الزكاة مرحلة تنموية لا بأس بها لكنها غير كافية لتدعيم النسيج النفسي بما يستحقه من فضائل أساسية لتحقيق الزكاة التامة و الطهر مصدر الرفعته و شرط النجاح لذا فقد و جب توفير وسيلة تنموية أخري أكثر فاعلية وهو الصوم.
الصوم هو القانون العلمي و العملي الثالث الذي تقدمه التعاليم الدينية كوسيلة استغلال ذات قدرة عالية تطهر نسيج النفس من مكبلات الرذائل مكمن الضعف و الوهن و التبعية لتدعمه بالفضائل مصدر التحرر والرقي.
تقنيات الصوم
قرار الصوم يضع النسيج النفسي في حالة استنفار قسوة و صدام عنيف بين كل العناصر الكامنة ضمن ذلك النسيج . تتدفّق مشاعر الخوف و الضعف و التبعية منددة بقرار الصوم وما ينتج عنه من أضرار خطيرة تخل مباشرة بالتوازن الجسدي و الوجداني و ما يتسبب فيه ذلك الاختلال من مشقة و قلق و عدم ارتياح. ذلك الهجوم الشديد تواجهه مجموعة أخرى من الظواهر الايجابية و فضائل النفس مصدر قوتها و مناعتها مثل الشجاعة و الحرية و الاستقلالية و الاكتفاء الذاتي و العزة و الأنفة و الصبر و التجلد و قدرة المواجهة و التحدّي و الرفعة و الكرامة منددة واعدة ثابتة على موقفها . مخاض هائل و معركة ضارية تساهم فيها كل مكونات النسيج النفسي و ينتج عنها القرار الحاسم أما القبول وأما الرفض.
إذا أقر الصوم فذلك يعني التفوق الواضح للفضائل التي سبق ذكرها و التي قدرت على افتكاك المبادرة و اتخاذ القرا ر. العكس يعني ضعف النفس و وهنها و خلو نسيجها من أي عنصر مقاومة وحماية.
دور التعاليم يتمثل في جعل الصوم فريضة مقدسة و واجب عظيم يفرض نفسه على كل مؤمن يحرص على حماية مصالحه العليا و توفير الرافد القوي المدعم للإرادة و عزيمة السعي.
نية الصوم التي وجب إقرارها في كل يوم تعني ملازمة الموقف والقرار و تدعيم التحدي السند الأول للفضائل و دورها الرائد في تقوية النفس و الإرادة.في كل يوم يتحقق الانتصار الذي تفتخر به النفس والذي يشحذ العزيمة و يدفعها إلى مزيد التحدي و التفوق و الارتفاع.
مع الأيام و الممارسة المنتظمة ترتكز الفضائل و تستحوذ على النفس لتدعم قراراتها و يرتفع الإنسان قيمة و يتقدم نحو هدفه نحو الفلاح عن طريق ما اكتسبه من قوة و صلابة ساهم الصوم في بنائها ضمن ما وفره من فضائل أصبحت جزءا من كيانه و قاعدة ثابتة لمواقفه و سلوكه..
ذلك الكسب العظيم يزداد متانة عندما يكون المعني بالأمر واعيا تمام الوعي بخاصية الصوم كوسيلة لا كهدف في حد ذاته و كهبة من الله العزيز تساعده على تحقيق الهدف الأسمى و المتمثل في تزكية النفس و رفع مستواها بما يكفل نجاحها و فلاحها.
كل ما ورد في هذا التقرير من تحاليل تخص الصوم تقف عند الظواهر دون الدخول في الأمور الباطنية البعيدة المنال و التي نلاحظ أثرها خلال الممارسة اليومية و التي تشير قطعا الى حدوث حركة هائلة ضمن خبايا النسيج النفسي حيث نلاحظ ذلك التدفق المفاجئ و العنيف أحيانا للمشاعر و الذي يدل على أن شيئا ما هو بصدد الحدوث .
قواعد التطبيق
القواعد التي تخص التطبيق السليم لهذا القانون العلمي و العملي الرائد هي :
التجديد المنتظم لنية الصّوم في مطلع كل يوم والمراد منه إثارة مشاعر الضعف و الخوف و التبعية و الوهن و المراوغة و التحايل والخضوع التلقائي لسلطان الغرائز و الشهوات قصد إذلالها و توريطها و تحدّيها بما تفرزه النفس من قوة و صلابة و صبر و تجلد و حريّة و انعتاق و اكتفاء ذاتي و استقلالية في تقرير المصير و قدرة على اتخاذ القرار كي يتوفر للصوم إطاره الطبيعي.
توفير الإطار القدسي عن طريق الإيمان و الخشوع و التحسب لأهمية الصوم و دوره العظيم في بناء النفس.
توفير الظروف الملائمة و الاستعداد التام من الناحية الجسدية و النفسية كي يحقق الصوم أهدافه دون مؤثرات سلبية و ذلك يعني سلامة الجسد من الأمراض و سلامة النفس من المضايقات لذلك فقد أمر الإسلام المريض و الحائض و المسافر بإرجاء الصوم و قضائه عندما تتوفر الظروف الايجابية.
« …وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ… »
البقرة 185
إعفاء الذين لا يقدرون على الصوم بسبب المرض المزمن أو العجز الدائم و تعويضه بالصدقة حرصا على حماية الحد الأدنى من مصالحهم علما و أن الصدقة تعمل في نفس الاتجاه و تنمي مجموعة لا بأس بها من الفضائل و لو أقل درجة و أهمية.
« …وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ… »
البقرة 184
وضع الإسلام تعاليمه ضمن منهجية آية في الدقة و الإحكام و وفر للإنسان كافة الوسائل العلمية و التطبيقية الكفيلة بحماية مصالحه العليا و ضمان نجاحه العاجل و الآجل شريطة أن يكون واعيا تمام الوعي بأهمية ذلك التمويل و تحديد واضح للعلاقة المنطقية التي تربط بين الوسائل و الأهداف .
الإيمان هو قاعدة النجاح والضمان الأساسي الذي يعمل على تحقيق النجاح الأعظم فهو المؤثرة القوية و الشديدة التأثير التي تفرض السعي الدءوب نحو الغاية الكبرى شرط النجاح و الفلاح والمتمثلة في زكاة النفس و طهرها و رفعتها و سموها عن طريق الفضائل أي القيم الأخلاقية النبيلة المحددة لمواقف المؤمن و سلوكه.
الإيمان هو الهبة الكبرى التي يتكرم بها الله عز و جل على عباده لتدعيم وعيهم بأهمية الوجود وشحذ إرادتهم و عزيمة سعيهم نحو التزكية و الرفعة و الاكتمال أي بلوغ مثالية الخلافة شرط الفلاح و النجاح و دخول جنة الرحمان.
الإيمان هو أول و أعظم هدف ولكنه يتحوّل إلى وسيلة عمل و انجاز فاعلة تحقق للمؤمن إدراك التزكية و التطهّر الشامل أي الهدف النهائي مفتاح الجنة والضمان الأساسي للفلاح . الوقوف عند الإيمان دون تزكية النفس هو الفشل بعينه و ذلك الفشل يكلف صاحبه ثمنا غاليا لأن أي جزء من رذيلة بقي عالقا بالنسيج النفسي هو بمثابة الحاجز المنيع الذي يحول دون دخول الجنة و ذلك قرار الله الذي لا جدال فيه كما ورد في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : » لن يدخل أحدكم الجنة و في قلبه ذرة من حقد. »
لقد نبه القرآن من مغبّة الاكتفاء بالإيمان دون السعي نحو التزكية الشاملة للنفس.
« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «
الشمس 9-10
« لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ »
البقرة 177
المؤمن الذي لا يسعى بكل ما أوتي من جهد و حزم و تفاني لاكتساب القيم الأخلاقية السامية وتطبيقها حرفيا على مواقفه و سلوكه و مشاعره و تفكيره يتسبب لنفسه بالفشل و الخيبة و الدمار الرهيب والاحتراق في نار جهنم وذلك قرار الرحمان و سنته التي لن تتبدل أبدا حيث يقول عز وجل منذرا عباده من مغبة الإفراط في الأمل والطمع ألامعقول و المخالف لشرائع الكون :
« وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا »
مريم 71-72
النشأة الثانية هي نشأة الطهر في مفهومه المطلق و الحاسم حيث لن يسمح الله عز وجل بأي صفة كانت لأي ذرّة من خبث أو فساد أن تدخل عالم الطهر و الكمال و الخلود وبذلك فقد تحتم على أي مؤمن مهما عظم إيمانه عدم دخول الجنة ما دام يحمل ضمن نسيجه النفسي أي اثر لرذيلة.
لقد وضع القرآن الكريم الموسوعة المعرفية بدقة و بوضوح لمساعدة العقل البشري على اكتساب ما يكفي من الوعي الذي يساعده على إدراك كافة أبعاد المشروع الكوني من حيث الأسباب و الوسائل و الأهداف و اعتماد الحكمة في تعامله مع ما أقره الله العظيم من قوانين و شرائع لا تترك مجالا لأي خلل أو خطاء أو نقصان أو تراجع أو تغيير.
الإنسان الذي أسلم وأدرك الإيمان يدخل الجنة إذا تزكى و تخلص نهائيا من جميع الرذائل واكتسب الفضائل. إذا فشل في تحقيق مشروع التزكية و التطهر فقد تحتم دخوله الجحيم و الاحتراق مدّة تطول أو تقصر حسب كمية الرذائل التي بقيت عالقة ضمن نسيجه النفسي.يمكن أن تدوم عملية الاحتراق و الألم الشديد و العذاب المهين أيام أو أشهر لدى بعض المؤمنين و يمكن أن تدوم سنوات عديدة لدى البعض الأخر. المرور على الصراط بسرعة السهم يخص ثلة ناذرة جدّا غفلت عن التخلص من جزيئات قليلة لا تكاد تذكر من رذائل وتلك هي حتمية المصير الذي أقره الله إقرارا لا جدال فيه و كجزء لا يتجزأ من القوانين التي وضعها الخالق لضمان نجاح مشروع خلقه و سلامته التامة. لا يحق لأي إنسان أن يجادل في أمر كهذا أو أن يتصور أن تحتوي النشأة الثانية على ذرة واحدة من خبث أو رذيلة.
الإفراط في الأمل و الرحمة و العفو بلغ لدى المسلمين حد الفوضى التي كبدت المجتمعات الإسلامية أعظم الخسائر و حالت دون سعيهم نحو الفلاح و النجاح وقيدت إرادة البذل و الاجتهاد و حالت دون امتلاكهم لأعظم وسائل الرقي و العزة أي القيم الأخلاقية السامية و النبيلة مصدر فلاحهم و نجاحهم في الدنيا و الآخرة.
كل شيء في الوجود يرتكز على القيم الأخلاقية السامية المقتبسة من أسماء الله الحسنى مصدر السمو والنبل و القاعدة الأولى و الأخيرة المحددة للحركة البنيوية والمقررة لمصيرها أي لنجاحها و سلامة مآلها من عمل بها بصدق و أمانة و تفان فقد فاز فوزا عظيما و من تركها و تجاوزها فقد تحتم هلاكه.
لقد سخّر الله لعباده المؤمنين أعظم و أقدر مشروع حضاري ضمن من خلاله رفعة المؤمنين و عزتهم و قوتهم وفلاحهم و نجاحهم في الدنيا و الآخرة هذا المشروع الرباني مبنيّ بالطريقة العلمية المدعمة بالقوانين التطبيقية الكونية و القواعد الأساسية التي تضمن الاستغلال الأمثل لتلك القوانين حيث تكون نتائجها منطقية و يكون صلاحها و نجاحها حتمية لا تقبل الجدال والمراوغة. الذي حدث هو العكس أي الفشل و الخيبة و التخلف و الانحطاط المتواصل إلى يومنا هذا والسبب في ذلك هو بالطبع الجهل و التخلف و الفوضى و الشلل الفكري وانعدام الوعي و قد ثبتت مثل تلك المواقف الرعناء من خلال التعامل الساذج مع الرصيد المعرفي الإسلامي حيث سعى العديد من أ هل الذكر إلى إبعاد العقل عن حلبة النقاش و التحليل و الاستنتاج و الاكتفاء بسنن السلف و تقاليدهم دون أي اعتبار لحركة التطور البشري فحدثت الطامة الكبرى و زجّ بالمجتمعات الإسلامية في غيا بات الانحطاط و خاب المسلمون دنيويا و أخرويا لأن ما توفره عقيدتهم من نجاح هو نسبي و ضعيف للغاية يمكّن الأغلبية الساحقة منهم من عدم الخلود في الجحيم ويؤمّن دخولهم الجنة في يوم من الأيام و هنا يبرز الخلل الشنيع و المتمثل في اختلال مفاهيم الفرد و عدم إدراكه لخطورة مصيره العاجل و الآجل مما جعله يتصور أن عقيدته التوحيدية سوف تحميه من كل شيء و سوف تضمن له النجاح التام كما أ ثبته العلماء ما دام عفو الله و غفرانه التام في متناوله ضاربين عرض الحائط بالقوانين و النواميس و الشرائع التي حتم الله تطبيقها الحرفي لحماية مشروع خلقه و ضمانة سلامته. كيف يمكن لعقل مهما كان مستواه أن يتصور أو أن يقبل بغفران تام لمؤمن جاء ربّه يوم القيامة و نفسه ملطخة بالرذائل عدوة الكون و عدوة الوجود. كيف يمكن لمؤمن كتابه القرآن الحكيم أن يقبل ولو برهة واحدة أن يتصرف المولى الجليل عن طريق هوى أو نزوة متنازلا عن إطار الحق و العدل و الشرائع السماوية التي التزم بتطبيقها أبديّا وبصفة مطلقة.
الله غفور رحيم ودود يغفر ما يشاء لمن يشاء حيث يقول عز و جل :
« إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ… »
النساء 116
« قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ »
الزمر 53
الموقف و القرار و السلوك الرباني ملتزمة تماما و في المطلق بإطار الحق و العدل والنواميس الشرعية التي و ضعها بإرادته و جعلها نافذة في الأبد قصد ضمان الصلاح التام لمشروع خلقه. فالله عز و جل يخلّص المؤمن إذا شاء من كافة الرذائل التي بقيت عالقة بنسيج نفسه لكن ذلك الأمر يبدو مستحيلا اعتمادا على ما ور د في الكتاب من تعاليم صلبة منيعة أثبتت حتمية خضوع حركة التطور البشري برمته للشرعية في أوسع معانيها . تتحقق تزكية النفس البشرية بشرعية عن طريق السعي و العمل و الاجتهاد و المواجهة و المثابرة الذاتية المتواصلة دون انقطاع حتى يكتمل طهرها التام لتبلغ مثالية الخلافة. أما إذا لم تتحقق تلك العملية أو لم تكتمل زكاة المؤمن فأن دور التزكية و الاكتمال تتحقق في الآخرة عن طريق الوسيلة الشرعية الثانية و القاسية وهي عملية الاحتراق و الألم و العذاب المهين الذي يعمل على تبديد و تفكيك و تدمير ثم نسف كافة الرذائل التي بقيت عالقة بالنفس المؤمنة. لقد تبين اليوم أن المسلمين لم يدركوا ضخامة مأساتهم و ألاّ فكيف يدمّرون مصالحهم و هم واعون بكل ما ينتظرهم من أهوال.
الموت و النشور
يعتقد الكافر أن الموت نهاية في حدّ ذاتها و عدم لا حياة بعده وهذه فكرة جميلة للغاية لو تحققت فعلا.لكن فاطر السماوات و الأرض خالق الكون و مصمم الوجود في أدقّ جزئياته حتّم نشور الموتى والحساب الشديد لمن سولت له نفسه العبث و الاستهتار بملكه العظيم فجعل الموت نهاية لمرحلة أولى و بداية لمرحلة ثانية أهم بكثير من سابقتها. فهو الباب الذي يمر منه المعني بالأمر بسرعة هائلة نحو مقره الأخير و الدائم.
يقول الرسول صلى الله عليه و سلم :
» من مات قامت قيامته «
و ذلك يعني أن الساعة والنشور تحدث مباشرة بعد الموت و تقدّر زمنيا و بالنسبة لوعي المتوفى بسويعات قليلة.
يقول المولى عز و جل :
« كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا »
النازعات 46
ثم :
« وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ… »
يونس 45
عندما تقوم الساعة و تنهار النشأة الأولى و تفنى مخلوقات الكون جميعها يخلق المولى جلّ شأنه النشأة الثانية و الدائمة الأبدية. :
« يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ »
الأنبياء 104
صفة الآية الكريمة تدل على أن النشأة الثانية سوف ينجزها الله بنفس الأسلوب و بنفس الطريقة الربانية التي تعتمد الإطار الشرعي إطار الحق و العدل. تطلّب انجاز النشأة الأولى ستة أيام ضمن فسحة الزمن الربّاني أي ما يعادل مليارات السنين بحساب أهل الأرض تكتمل خلالها نشأة الخلود فيقع النشور و يبدأ الحساب. يضل الميت دفين الأرض طيلة مليارات السنين و عند النشور تعود النفس إلى جسدها و يستعيد الإنسان وعيه وكأنه قد مات البارحة لأن تلك المليارات من السنين التي مرت لا تمثل أي وزن بالنسبة لمن فقد وعيه أو روحه التي ظلت ملازمة برزخ الأموات إلى حين عودتها.
أما بالنسبة للجسد الإطار المادي للنفس البشرية والذي من المتوقع أن يكون متميّزا و قادرا على تحمّل متطلّبات يوم النشور المقدّر بخمسين ألف سنة فمن المعقول جدا أن يكون مغايرا أكثر متانة و صلابة كما أشارت إليه إحدى الآيات :
« …وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ »
الواقعة 61
لم يرد في القرآن الكريم ما يشير إلى طبيعة الأجساد القادرة على مواجهة يوم القيامة رغم أهواله و مآسيه هل يحتاج جسم الإنسان إلى الأكل و الشرب أم أنه يكون مكتفي ذاتيا. أما بالنسبة لطريقة الحساب فقد ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى :
« …وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا »
الإسراء 13-14
لو أضفنا مدلول هذه الآية الكريمة إلى ومضات إخبارية قرآنية عديدة تخص طريقة الحساب مثل شهادة الأيدي و الأرجل و اللسان و الجلود لأدركنا بكل يسر أنّ القراءة المشار إليها ليست رمزية أي قراءة حروف و إنما سمعية بصرية و كتاب الأعمال هو تسجيل سمعي بصري لحياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها تبرز عن طريق الصورة الواضحة شكلا و مضمونا مقدمة كل الأدلة و البراهين الدامغة قاطعة سبل الإنكار والتعلل والاعتذار و ما ذالك على الله بعزيز خاصة بعد أن ثبت علميّا أن كل الأحداث التي تجري على الأرض تضلّ مسجّلة شكلا و مضمونا في طبقات الفضاء المحيط بها حيث يمكن استغلالها في يوم من الأيام عندما يطوّر الإنسان وسائله التقنية ليستعيد ذاكرتها بالصوت و الصورة فيرى و يسمع كل ما حدث على هذه البسيطة عبر الزمان و المكان.
الجحيم
المشروع الكوني الرّباني يحتوي على عنصر أساسي و حتمي لا يمكن مطلقا الاستغناء عنه وهو الجحيم المطهّر للنفايات و الخبائث و الأخطار التي تفرزها النشأة الأولى عبر تطورها الهائل ولتساهم في تحقيق النشأة الثانية نشأة الطهر و الكمال و الخلود التي أراد الله انجازها فوضع أشرا طها بضبط حسابي دقيق.
لم نجد في كتاب الله ما يشير إلى تحويل أي عنصر وجد في الكون إلى حالة عدم رغم ما يمكن أن يمثله من أخطار. كل ما يقع رفته كمصدر تهديد وجب التخلص منه يوضع في جهنم حيث يواجه مصيره المحتوم طبقا لنواميس الحق و العدل بصفة دائمة إلاّ أن يشاء ربك. لا يمكن إذا أن نعتبر جهنم مسألة قسوة و غل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا بل جزءا قائما و حاسما من برنامج الخلق الرباني الذي حتّم و جود ذلك العنصر الرهيب والمكمل للمشروع الكوني.
أما عن إمكانية التخلص النهائي لعناصر الشر وتحويلها إلى عدم فهي واردة و ذلك القرار يتخذه المولى عز وجل عندما يشاء و إذا شاء كما برز في قوله تعالى إشارة إلي الكفار زبانية الجحيم :
« …قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ »
الأنعام 128
الدّور الثاني للجحيم يتمثل كما اشرنا سابقا في تطهير المؤمنين الذين لم يفلحوا في تحقيق شرط الفلاح أي التزكية التامة للنفس و تطهيرها النهائي من الرذائل و ما دام نسيج النفس يحتوي على رذيلة أو جزء من رذيلة فان دخول الجنة يظل مستحيلا. لذلك تكرم الله على هؤلاء المؤمنين بفرصة أخيرة تمكنهم من تدارك أمرهم وتطهيرهم نهائيا عن طريق جهنم والبقاء فيها مدة زمنية كافية تطول أو تقصر حسب كمية الرذائل و أهميتها.
التطهير يتحقق عن طريق الاحتراق في نار جهنم أي عن طريق الألم الشديد و العذاب المتواصل دون هوادة. عندما تحترق الجلدة مركز أعصاب الحساسية و مصدر الألم و العذاب تتبدل و تتجدد تلقائيا و مباشرة كي يتواصل شعور الألم و العذاب على أشدّه والذي من خلاله يقع تذليل وذوبان ثم تدمير الرذائل و التخلص منها نهائيا. الرذائل ليست مادية لأنها تنتمي إلى ميدان روحاني صعب المراس وهي شديدة قوية عنيفة متصلبة آفتها الوحيدة هي الألم و العذاب الذي يهز الوجدان و يعصف بالنفس مقرّها فيرهقها ويشتتها فتتفكّك و تضمحلّ و تنهار لتتلاشى فتندثر في نهاية الأمر و بذلك تتحرر النفس البشرية وتستعيد زكاتها و طهرها فينجى صاحبها ويرحل عن الجحيم و يتأهل لدخول جنّة الرحمان. ذلك هو المصير الذي ينتظر كل مؤمن لم يعي خطورة أمره و الذي أدرك المهم أي الإيمان وغفل عن الأهم أي زكاة نفسه و طهرها الشرط الأكبر للنجاة فدفع ثمنا باهظا رهيبا و ليحمد الله الذي اشتراه و تكرّم عليه بتلك الفرصة الأخيرة فاجتباه.
الجهاد في الإسلام
البرنامج التنموي الذي يعتمده الإسلام يبني المسلم المثالي و الخليفة المرتقب بطرق و أساليب علمية دقيقة تمكن الإنسان الضعيف والمهين من الارتقاء بذاته و بتدرج حكيم نحو مختلف مراحل القوة و المناعة و العزة لتحقيق الهدف الأساسي من وجوده أي تطهير النفس و تزكيتها و رفعها إلى أعلى مستوى شرط نجاحها .
هذا البناء يرتكز كليا على العقيدة الأساسية التي توفر قوة الدفع و حتمية السعي وضرورة الانتصار التي تفرضها المصلحة الذاتية للفرد وتقرها إرادته و عزيمته عن يقين وقناعة فولاذية حيث تكون مبادرة السعي و النجاح ذاتية و مسؤولية فردية.
يتواصل السعي و العمل وترتقي النفس عن طريق الفضائل إلي أن تبلغ أعلى درجة الرقي والمتمثلة في امتلاك قدرة التحكم و السيطرة على مبادرة الوجود بحرية و صلابة تمكنها من اقتحام إطار التضحية بالنفس و النفيس عند الضرورة ودون تهور بالطبع فيموت شهيدا في سبيل الله عن اختيار واع و إرادة ذاتية أي عن يقين.
عندما يبلغ المؤمن هذه الدرجة من العطاء يكون قد وفر الدليل القاطع على إدراكه أعلى مراتب النجاح و الفلاح الذي يخوّل له الانتقال مباشرة بجوار الرحمان و دخول الجنة دون المرور بالمسلك المعتاد لبقية الناس أي الموت و النشور ثم الحساب المقرر للمصير.
« وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »
آل عمران 169
الشهادة في الإسلام هي أعظم ما يتحمله المسلم من مسؤوليات . فهي فردية تخص المعني بالأمر و تتطلب وعيا تاما بحتمية انجازها و قدرة فائقة على التمييز بينها و بين قتل النفس ظلما و عدوانا مع العلم أن الإسلام لا يقبل بحجة الجهل.
« كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ »
المدثر 38
« وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ… »
الإسراء 13
« …وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى… »
الإسراء 15
أما الجهاد فهو احدي أعظم ركائز ألإسلام التي تضل قائمة الى أن يرث الله الأرض و من عليها ينطبق على كل مسلم يحرص على حماية مصالحه العاجلة و الآجلة وهو يمر من مرحلتين متواليتين تطابق نسق تطور الأمة عبر تاريخها .
المرحلة الأولى التي وصفها الرسولصلى الله عليه و سلم بالجهاد الأصغر تتمثل في بناء الخريطة الجغرافية و السياسية للإسلام والتي تحققت عن طريق الفتوحات الميدانية ورسمت حدود الدولة ومنطقة نفوذها . لم يكن القصد من الفتوحات فرض الإسلام بقوة السلاح كما بتوهمه الكثير لأن ذلك يتعارض مع أحد أهم مبادئه الذي يرفض الإكراه و التسلط وإنما توفير السلم لكل من يدخل الإسلام و حمايته من أي رد فعل يهدد سلامته و طمأنينته. هذا الجهاد المادي و الميداني وقع انجازه بما فيه الكفاية.
المرحلة الثانية والتي وصفها الرسولصلى الله عليه و سلم بالجهاد الأكبر تعتمد وسائل أهم بكثير من سابقتها وترمي لأهداف أرفع مستوى يتمثل في بناء ارقي نمط حضاري شهده الإنسان و الكون ويعتمد وسائل انجاز متطورة للغاية وهى القلم و العقل واليقظة الدائمة والبحث و التمحيص و الاكتشاف والفطنة و الذكاء و الحكمة والسعي الدءوب نحو أعلي مراتب البناء و التطور لضمان استمرارية الرقي و العزة و المناعة لأمة الإسلام و للبشرية من حولها.
المرحلة الثانية و الحاسمة من الجهاد لم يقع تحقيقها على المستوى المطلوب لعدة اعتبارات أهمها تدني مستوى النضج وعدم قدرته على موازاة حركة التعاليم وركود التفكير في بوتقة التقاليد السلفية فحدث الاختلال بين محتوى الإسلام و مستوى المسلمين الذين لم يتعاملوا مع الدّين كعلم قائم الذات مدعّم بقواعد و قوانين علمية كونية و إنما كمجموعة طقوس تعبدية و شرائع وقع تطبيقها عن طريق التقاليد الموروثة عن السلف فحال الأمر دون تحقيق التوازن الديناميكي للأمة مصدر حركيتها وضمان رقيها المتواصل.
لا زلنا إلى يومنا هذا نقاسى من ويلات مرحلة الركود حيث نرى أن مجموعة لا بأس بها من المسلمين يتشبثون بمواصلة الجهاد ونشر الإسلام عن طريق الفتح الميداني بقوة السلاح في عصرنا هذا مما يدل على تدني مستوى التفكير بل و تحجره.
الظروف القاسية التي تمر بها البشرية و ما يتخللها من أزمات وضعف الإمكانات وانعدام المراجع والإفلاس الاديلوجي و الفقر الثقافي والخوف و اليأس وانسداد الآفاق يجعلها مهيأة تماما لاعتناق الإسلام والتمسك به كمرجع وحيد وكمصدر أساسي لتعديل المسار العام و منطلق لبناء نمط حضاري رفيع المستوى يناسب الطموحات الشرعية للإنسان و يضمن سلامته.
الحاجز الوحيد و العقبة الكأداء التي تحول دون اتخاذ قرار اعتناق الإسلام من طرف البشرية و السعي الفوري لتطبيق معادلته الوجودية و انجاز مشروع حضارته المرتقبة و الوشيكة هي الحالة المأسوية للمجتمعات الإسلامية و تدني مستواها و ضعفها و وهنها و مذلتها مصدر الحيرة و الاحتياط و التحسب و الخوف من مغبة الدخول في مغامرة مشكوك فيها.
انتشار الإسلام عبر كافة الأصقاع هي مسألة وقت نأمل أن يكون وجيزا يتوقف بالخصوص في يقظة المسلمين و تحركهم و اقتحامهم ميادين الرقي و التطور بحزم و ثبات عندها تنتشر أنوار الله عبر جميع الأصقاع وتقتحم البشرية مرحلة رشدها. من ناحية أخرى فقد أثبتت الأحداث و التجارب الميدانية أن عدد الذين دخلوا الإسلام عن طريق القوافل التجارية و تأسيا بسلوك المسلمين يفوق بكثير عدد الذين أسلموا اثر الفتوحات .
وليعلم الجميع أن الإسلام لا ينتشر و لا يعم الأرض إلا عن طريق المثل الأعلى أي عن طريق السلوك المدعم بالقيم الأخلاقية السامية التي ترفع المسلم الصادق إلى أعلى مراتب التحضر وتجعله رحمة أينما حل ومصدر خير ينشر أنوار الإسلام بين الناس دون مشقة ودون عنف أو تسلط أو أكراه.
من غرائب ما نراه اليوم هو بروز نفس الحركات السلفية التي تسببت في انهيار الدولة الإسلامية في القرن الخامس للهجرة و دمرت هياكلها و زجت بمجتمعاتها في أتون التخلف و الضعف و المذلة باسم الجهاد المقدس. أي جهاد هذا الذي يسعى إلى تدمير ما تبقى من هذه الأمة و زرع بذور الفتنة و الانقسام و التشرذم و الطائفية و القبلية و نسف الوحدات القطرية أي العنصر الايجابي الوحيد الذي تبقى و الذي بدونه لا يمكن أن نتصور نجاح أي مشروع إصلاح كان. و ليعلم الجميع أن تدمير الوحدة الوطنية او القطرية لأي بلد إسلامي تعني نهايته واستحالة إصلاحه.
عملية الحادي عشر من سبتمبر أهدت أعداء أمتنا الشرعية التامة للتدخل وتدمير شامل لأفغانستان و العراق ومكنت اللوبي الصهيوني الأمريكي من تحقيق ما لم يكن يحلم به و المتمثل في تلك المساندة المطلقة التي تلقاها من طرف كافة الدول. أخطر نتائج ذلك التدخل لاتقف عند نسف و تحطيم البنية الأساسية بل تتجاوزها بكثير. القطر العراقي أفرغ من مصادر قوته و تفكك و انقسم إلى أجزاء متفرقة و أقاليم تحكمها الطوائف و القبائل و العشائر إي دويلات ضعيفة مهينة تراودها شياطين الأنس.لم تعد أمتنا تعول على العراق كسند قوي و كمصدر قوة بل كمصدر قلق و مشاكل متواصلة.أفغانستان سوف تتحمل نفس السيناريو و سوف تتجزأ إلى دويلات تحكمها القبلية و الطائفية.التحالف لم يحقق انتصار عسكري مادي ساحق لكن انتصاره السياسي مطلق تجاوز كل المقدرات فلا ننسى البؤرة الثالثة و الأهم بالنسبة له وهي باكستان والتي قدر على إقحامها في دهاليز الفتنة القبلية و الطائفية المدمرة للكيان بأسره. هذا المسلسل الرهيب لن يقف عند هذا الحد.
لقد أتت السلفية الدينية علي الأخضر و اليابس و كبدت الأمة أكبر خسائر يمكن أن تتحملها أي أمة أخري. أينما حلت جحافل هذه السلفية المتسترة بالجهاد المقدس حلت الفتن و الكوارث.اليمن مهدد بالانقسام .السودان معرض للتفكك و كذلك التشاد و الصومال .أقطار المغرب العربي تتهيأ لمواجهة ضارية و قد برزت بوادرها بوضوح في الجزائر خاصة وقد اتضحت نتائجها من خلال مطالبة منطقة القبائل بتقرير مصيرها و الاستقلال عن وطنها و البقية تأتي.
لم يعد يخفى على أحد أن النظم السياسية ضعيفة وغير قادرة على تحقيق ما نطمح إليه من تقدم و تطور وهي كمثيلاتها الحكومات الوطنية الأخرى تخضع لإرادة النظام المادي و هيمنة الرأسمالية العالمية. بالاظافة لتلك التبعية الشعوب الإسلامية ضعيفة للغاية لا توفر لحكوماتها السند القوي و الأساسي لتنفيذ قراراتها بحرية تامة و لا تعول على دعمها بل بالعكس فهي تتحسب منها و تحتاط من ردود فعلها.
هذه الأوضاع تجعل النظم السياسية في حالة طواري و تحسب متواصلة همها الوحيد الحفاظ علي السلم و التوازن الاجتماعي و حماية الوحدة الوطنية مما يترصدها من أخطار كلفها ذلك ما كلفها من تضحيات. عوض ،أن ترصد المجهودات و الطاقات للتطور الحضاري ورفع مستوى الشعب يقع رصد تلك الإمكانات لتحقيق الحد الأدنى من التوازن السياسي و الاجتماعي . وبما أن تيارات المعارضة تشكو من نفس حالة الضعف و التخلف التي تعرّضها لكل الاحتمالات وقد تأكد ذلك التخلف من خلال برامجها السياسية و مدى رسوبها في طور التقليد و الاستهلاك للقوالب المستوردة و عجزها عن إنتاج برامج تنموية ذاتية تطابق خاصيات المجتمع ومكوناته . إذا أضفنا لهذه الأوضاع المتردية التيار السلفي بفوضويته و عنفه و تحجره وما يحمله من دمار و كوارث على جميع المستويات فأن الطامة الكبرى تكون قد تحققت لتأتي نهائيا على ما تبقى من هذه الأمة التي تفتقر لأبسط وسائل الحماية.
لقد تبين أن الإسلام الرسمي مرجع الأمة و مصدر حمايتها ضعيف رغم كثافته من حيث العدد وقد ثبت عجزه و وهنه في عدم قدرته على مواجهة الأخطار التي تعصف بالمجتمعات والسبب يعود بالدرجة الأولى إلى تدني خطابه و تعلقه الا مشروط بقراءته التقليدية التي وقفت في الزمان. التشبث المطلق بتقاليد السلف الصالح نتج عنه ركود العقل و انعدام تطوره واكتفاءه بتوازن حالي جامد غير متحرك تهيمن عليه الدغمائية القديمة.
رغم ضخامة وسائل التبليغ و الوعظ و الإرشاد وعلى رأسها الخطب الجمعية لم تتغير أحوال المسلمين بالدرجة التي نتوقعها ولم يرتفع مستوى الوعي ولم يتطور المجتمع الذي رسب ضمن توازنه الستاتيكي الجامد يتخبط في خضم طقوس تعبدية مكثفة و معقدة دون أن يدرك أبعادها البنيوية.
لو استثنينا إنتاج بعض العلماء المختصين في موضوع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم يمكن القول بأن ما تبقى من المواد المعرفية الأساسية والتي تخص البناء العقائدي و النفسي و الوجداني و الفكري ضلت على حالها وذلك يعني أن العلاقة التي تربط بين العقيدة و السلوك بقيت مختلة وفوضوية يستحيل معها أي أمل في التطور والرقي الحضاري لهذه الأمة.
العلم هو نور المعرفة التي نكتسبها عن طريق المؤسسات التعليمية بمختلف أنواعها و درجاتها أما الثقافة فهي الامتداد الطبيعي للعلم الذي يمثل السند الأساسي لوعي المتعلم ورفع مستوى حكمه وقدرته على استغلال رصيده المعرفي الاستغلال الأمثل. العلم مقره العقل و العقل حيادي بالطبع أما الثقافة فمقرها النفس بما تمثله من ميول و نزعات و أهواء. المعرفة هي بصيرة النفس ودعم عظيم لأهوائها و نزعاتها التي تقرر الموقف و السلوك لدى الفرد و تلزمها باعتماد الأخلاق في تقرير مواقفها و سلوكها.الثقافة هي إذا الطريقة الواعية و الحكيمة في استغلال المعرفة.
العلم وحده لا يضمن صلاح الحركة ولا يمكن بمفرده أن يضمن سلامة مسعاه مما يستوجب دعمه بثقافة عالية رفيعة المستوى تحدد مساره وتفرض صلاح أغراضه. دليل العلم هي الشهادات العليا أما دليل الثقافة فهي القيم الأخلاقية السامية منبع صلاح النفس مصدر الإرادة و القرار التي توظف العلم وتوجهه بحكمة و ثبات.
المجتمعات الإسلامية تعلمت بما فيه كفايتها و هي اليوم بصدد تصدير طاقات علمية رفيعة المستوى إلى أقطار عديدة لكنها لم تحقق تطورها و بقيت متخلفة إلى أبعد الحدود فما هو السبب؟
السبب يعود إلى عملية الخلط بين العلم و الثقافة. صحيح أن المسلمين تعلموا لكنهم لم يدركوا الثقافة الرفيعة المستوى و العنصر المكمل للعلم و المعرفة أي الإطار الشرعي و الحاسم في حسن استغلال العلم و تحقيق النمو و الرقي المطلوب. هذا المشكل يمكن ملاحظته في أي مناسبة باستثناء بعض النوادر حيث نرى كوادرنا الرفيعة المستوى من الناحية المعرفية وضيعة رديئة متدنية في سلوكها و في علاقاتها تفتقر إلى أبجديات التمدّن و أبسط القيم الأخلاقية و السلوك الحضاري.هذه الأوضاع مخزية و مؤلمة لكنها قائمة الذات لاتنطبق على الكوادر فحسب بل تشمل أغلبية الأفراد الذين لا زالوا يتوهمون أنهم أدركوا الثقافة و كأن الثقافة هي مجرد حروف و أرقام.