ابتداء من هذا العنوان يتحتم على القارئ وضع كافة مداركه في حالة طواري و يقظة مستمرة تجعله يتفطن لأبسط حركات التمويل المعرفي الإسلامي وتأثيرها العظيم علي مشروع الوجود و مصير الإنسان.
تنقسم البشرية إلى ثلاثة أقسام :
قسم لا بأس به مهيأ للإيمان لا يمكنه ممارسة حياته دون عقيدة روحية مهما كان نوعها و مصدرها و لو أدى به الأمر إلى الانصهار ضمن فرقة عقائدية لا شرعية لها حيث يكون تعلقه برموز كهنوتية ضرورة توفر له نوعا من التوازن الوجودي.
القسم الثاني تحتم عليه الكفر فهو لا يرى الحياة إلا من خلال الإلحاد مصدر توازنه الوجودي وطمأنينته و رغد عيشه.لا يمكن لهذا النوع من الناس أن يؤمنوا . لو تمكنوا من رؤية الجنة و الجحيم مباشرة فإنهم لن يصدقوا أعينهم بل يعتبروا المشهد مجرد خدعة عدسية مبصريه أو ظاهرة سراب و عند القدامى سحر و تظليل.
القسم الثالث هم اللأدرية الذين لا عقيدة أساسية لهم والذين يتباطئون في تحديد اختياراتهم العقائدية نتيجة عدم اكتراثهم بالموضوع أو عدم رغبتهم في البت فيه . يمكن لبعضهم أن يهتدوا في يوم ما و تضل البقية متمسكة بنفس الموقف.
لا يكمن الفرق بين هؤلاء و هؤلاء في المستوى العلمي أو مستوي النضج و الذكاء لأن هذا العنصر لا يدخل في قضية العقيدة الأساسية و إنما في طبيعة النسيج النفسي الذي يختلف من شخص للآخر.
الطريقة الكونية للبناء العقائدي
لا يمكن لأي إنسان وجد في الكون مهما ارتفعت درجة علمه و فطنته و حكمته أن يبني عقيدته الأساسية عن طريق التحليل العلمي أو المنطقي و تلك إرادة الله و قراره.
عندما يختار المرء عقيدة ما مادية كانت أم دينية فذلك لا يعني أبدا أنه أدرك الحقيقة في مفهومها الشرعي لأن ذلك الأمر مستحيل في المطلق بل يكون قد اعتنق ما يطيب لنفسه و ما تهواه وترتاح له رغباته مصدر ترفه وتوازنه العقائدي و النفسي. اختياره إذا ليس منطقي عقلاني و إنما عاطفي
يرتبط بأهوائه و ميوله فقط.هذه الطريقة تنطبق على الناس كافة و دون استثناء حيث يمكن الجزم أن الفرق بين هذا الشخص و ذاك لا يكمن في اختلاف درجة العلم و الذكاء و الفطنة و إنما في اختلاف الأهواء و الرغبات و الميول أي في طبيعة النسيج النفسي الذي يأطر الإرادة مصدر القرار و الاختيار.
« …إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ… »
النجم 23
القيمة الحقيقية للإنسان لا تكمن أبدا في مستواه العلمي أو في ذكاءه و فطنته و إنما في نفسه مقررة الطبع و السلوك. ‘ قل لي من تحب أقول لك من أنت’
ذلك هو واقع الإنسان و قدره الذي حدده و أراده الله العزيز الحكيم تماشيا مع متطلبات مشروع خلقه على الأمد البعيد. الطريقة التي حددها الله في بناء العقيدة الأساسية و ضعت بحكمة بالغة و بضبط حسابي يضمن تحقيق احد أهداف المشروع الكوني عبر تطوره و مآله في ما يخص أحد أهم عناصره أي الإنسان.
هذه الطريقة تدعونا إلى التبصر و الاتعاظ و التخلي عن موقف الغرور و العداء و الالتزام خاصة بموقف الاحترام للآخر مهما اختلفت عقيدته عملا بقوله تعالى
« لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ… »
البقرة 256
مكانة الدليل المادي
يقول المولى عز وجل محذرا من مغبة المطالبة بالدليل المادي الذي يخص وجود الله و حتمية النشور :
« كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ »
التكاثر 5
« إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ »
الشعراء 4
السخرية من سذاجة العقل المطالب بالدليل المادي واضحة لأن طلب كهذا لا يمكن أن يصدر إلا عن جهل صاحبه بخاصيات مشروع الخلق الرباني من ناحية البناء و التقدير ومن ضمنه العنصر البشري المعرض لأعنف عملية فرز و انتقاء تستخلص على إثرها الثلة الصالحة للبقاء و الاستمرار في عالم الجنة و الخلود مما يحتم على كل من يأنس في نفسه خيرا الاستعداد لخوض المواجهة والفوز بإرادة ذاتية و حسب إمكاناته وقدراته الشخصية التي تجعل نجاحه مستحقا و شرعيا. لو وجدت أبسط الأدلة و البراهين المادية التي تثب وجود الله و النشور و الحساب و الجنة و الجحيم لاختل هذا المشروع على الأقل في ما يخص مصير الإنسان برمته حيث تنطلق البشرية كافة في سباق شديد و اجتهاد منقطع النظير لبلوغ أعلى مراتب النجاح و الفلاح يدفعها الرعب من العذاب الرهيب و الطمع في جنة النعيم و جنة الخلود التي أصبحت هدفا تحتمه المصلحة الذاتية و يقينا مرئيا لا يشك فيه أحد. عندها نتساءل من الذي فرض على الإنسان بلوغ ذلك الهدف ؟ هل هي المبادرة الذاتية و الاجتهاد التلقائي الشخصي أم الدليل المادي و المرئي ؟ ما عسى أن تكون شرعية ذلك النجاح الشامل وما هي قيمة امتحان لا يفي بالغرض المطلوب و لايحقق الهدف الأساسي للحياة الدنيا التي تصبح بدورها مهزلة و فوضى ترفضها الحكمة و المنطق السليم؟
الجهل يهوي بصاحبه إلى أرذل المراتب فيجعله لا يعي سذاجة مطالبه ولا يدرك مدى حكمة الله في بناء خلقه .فلا غرابة إذا أن يطالب بالدليل والبرهان المادي ما دام لا يعي خطورة مطلبه و تردي مستوى تفكيره.
العقيدة الإسلامية
كل العناصر التي سبق تقديمها تدخل في إطار التوطئة وتعبيد الطريق أمام العقل كي يستعد لخوض أغوار المعرفة الرائدة التي تخص التمويل الرباني العظيم بحرية تامة ودون أي مكبلات حتى تتضح رؤيته و يتضح مساره.
الظروف القاسية التي نمر بها حاليا تحتم علينا تغيير مواقفنا من القراءة التقليدية الضعيفة والتخلص الفوري من مكبلات الدغمائية القاتلة واعتماد العقل والتحليل المنطقي السليم كوسيلة أساسية لتحقيق ما يفرضه علينا التمويل الإسلامي من يقظة و فطنة و تبصر لبناء علاقة علمية متينة تعتمد العقل كمخاطب و شريك شرعي لا يمكن الاستغناء عنه أبدا. إبعاد العقل و اعتماد التأويلات العشوائية والخوض في ميدان غيبي مستحيل الإدراك و الاكتفاء بالتقاليد العقائدية القديمة هو الشرك الذي يجب تفاديه و التخلص منه خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع بحث أساسية و مصيرية مثل العقيدة . فلا يمكن أن يغيب عن المفكر المسلم شرط القرآن في بنا الحوار والمتمثل في اعتماد العقل المخاطب الشرعي الأوحد.
العقيدة الدينية تنتمي إلى ميدان غيبي صرف لكن رغم كل الصعوبات و الاستحالة التي يتميز بها ذلك الميدان يقدر العقل على مواجهتها و التقرب منها و فهم خصوصياتها و إدراكها عن طريق التحليل و الاستنتاج المنطقي إذا تفطن لما يفوره القرآن من وسائل دعم و تمكّن من مسايرة أسلوب الاستدراج الحكيم الذي يعتمده ذلك الكتاب في تقليص الهوة بين التفكير و الميدان الغيبي
الأسلوب القرآني في استدراج العقل
ظاهرة العجل
ينبئنا القرآن أن الإنسان هو ذات عجل وأن هذه الظاهرة النفسية تقوم بدور حاسم يتمثل في تأثيرها العظيم على موقف الفرد وسلوكه كلما تعرض لمواجهة ميدان غيبي صعب المراس.ظاهرة العجل تنتمي إلى النسيج النفسي و تقوم بدور ايجابي يتمثل عادة في حماية الإنسان من أخطار جمة و المحافظة علي توازنه النفسي الوجداني كلما تعرض لمشاكل و أزمات عنيفة صعبة لا يستطيع حلها و التخلص من أزرها. تتدخل تلك الظاهرة بصلابة لتستعجل الأمر و تضع حدا لتلك المأساة عن طريق موقف النفي الذي تختص به أي نفي قيمة الأزمة أو نفي تأثيرها أو نفي وجودها جملة و تفصيلا كي تعيد للنفس طمأنينتها و توازنها في أسرع وقت ممكن.
« خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ… »
الأنبياء 37
الدور الريادي لهذه الظاهرة يكون في بعض الحالات خطيرا جدا خاصة عندما يتعلق الأمر بموضوع العقيدة الأساسية الغيبية بطبعها نظرا لما تحدثه من حيرة و ارتباك يتسبب في تعكير المزاج و فقدان الهدوء و الطمأنينة و انعدام القدرة على البت النهائي. عندها تتدخل ظاهرة العجل بقوة و صلابة لتضع حدا لجو الحيرة و الشك و الارتباك عن طريق موقفها المعتاد أي النفي للموضوع برمته.إذا لم يكن المعني بالأمر على وعي تام بخاصية دور تلك الظاهرة و ما ينتج عنه من أخطار تهم المصير برمته فانه يركن لقرارها فيستعجل النفي و التكذيب و يميل إلى الكفر.
القرآن الكريم ينبهنا من مغبة السقوط في الشرك المدمر لتلك الظاهرة الطبيعية والأخذ بعين الاعتبار ما تقوم به من دور حاسم ومواجهته بالصبر والتجلد و التروي.ذلك التنبيه الشديد اللهجة ورد علينا في إطار قصة عظيمة البلاغة هي قصة موسى عليه السلام و الخذر ذلك الرجل الصالح الذي وهبه الله علما فريدا من نوعه يمكنه من معرفة غيب الأحداث والتصرف فيها طبق صيرورتها.
عند الملاقاة بين الرجلين يقترح موسى على الخذر مرافقته و الاستفادة مما خصه الله به من علم فيفاجئه رفيقه قائلا و جازما : » انك لن تستطيع معي صبرا » ثم يعلل ذلك الجزم بقوله » و كيف تصبر على ما لم تحط به خبرا » فيؤكد له موسى التزامه بالصبر والطاعة « ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ». عندها يضع الخذر شرطه الثقيل. « قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا » وذلك يعني عدم التدخل مهما حدث. يقبل موسى الذي اشتهر بقدرته على الصبر و التجلد ذلك الشرط اليسير و ينطلق الرجلان نحو شاطئ البحر حيث وجدا سفينة راسية.يركب الرفيقان ٌٌعلى ظهرها فيتناول الرجل الصالح معولا و يخرق المركبة. يتعجب موسى من ذلك الموقف الغريب و يتدخل مباشرة متناسيا وعده و التزامه فيقول : « أخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئا امرا » فيرد عليه صاحبه بكل هدوء : » ألم أقل انك لن تستطيع معي صبر ا » مؤكدا جزمه.
يأسف موسى عن تسرعه في التدخل وعدم التزامه بوعده فيقول : » لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. »
يوا صل الرفيقان طريقهما حتى إذا لقيا غلاما فقتله فتثور ثائرة موسى ويتدخل منددا بما ارتكبه صاحبه في حق الفتى البريء ويقول : » أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا. » فيذكره الخذر قائلا : » ألم أقل لك انك لن تستطيع معي صبرا. » مركزا مرة أخرى على أداة الجزم. يدرك موسى أنه وقع في نفس الخطأ فيألم لما بدر منه و يقول : » إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. » وهو اعترا ف صريح بفشله و تورطه.
تتواصل الرحلة حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخذر فيتدخل موسى عليه السلام ساخرا ويقول : » لو شئت لتخذت عليه أجرا. » فيدرك الرجل الصالح أن صاحبه قد أرهق و أن التجربة قد بلغت غايتها فيقول له : » هذا فراق بيني و بينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا. و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرقهما طغيانا و كفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما. وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك و ما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا. »
« قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا »
الكهف 65-82
تمثل هذه القصة إنذارا شديد اللهجة يحتم على الإنسان توخي الحيطة والحذر و اليقظة التامة من مغبة السقوط في شرك ظاهرة العجل و تأثيرها الفتاك كلما حاول الفرد مواجهة العقيدة الدينية الشديدة الوقع على المدارك بحكم انتمائها إلى ميدان غيبي مجرد و التجلد بالصبر و المثابرة و الثبات واستكمال كل طاقات التفكير عله يهتدي إلى المسلك الصحيح الذي فيه نجاته عوض الخضوع للعجل و التسرع في التكذيب و النكران و الكفر.
لا يمكن للإنسان أن يدرك قدرة موسى عليه السلام على الصبر و التجلد و الثبات لكن رغم ذلك فقد تورط و فشل عندما واجه وضعية شديدة الوقع على المدارك تتطلب معرفة لا يملكها أي إنسان وهي معرفة الغيب و إدراك صيرورة الأحداث.ترك موسى العنان لظاهرة العجل التي استحوذت على كافة المبادرات فأفقدته صبره و أوقعته في الخطأ أكثر من مرة و جعلته يحتج و يقسو و يسخر من رفيقه. كل ذلك حدث لأن موسى لا يمكنه أن يعلم الغيب بل يتصرف كأي إنسان في مدارك تعتمد الدليل المادي و المرئي و التي تحدد موقفه و حكمه. اختلاف وسائل الإدراك تحتم عنها اختلاف الحكم و الموقف لدى الرجلين . كاد حكم موسى و موقفه أن يكون شرعيا لولا وجود التنبيه و الشرط المسبق و كذلك وعده بالتزام الصبر والثبات. ما كان الله لينقص من قيمة رسوله من خلال هذه القصة ولكن أراد أن يعلم الإنسان كيف يثبت و كيف يفوز رغم تواضع إمكاناته عندما يواجه ميدان الغيب الشديد الوقع.
الفطرة
يولد الإنسان على الفطرة وهي الحقيقة التلقائية و الحتمية التي تخص وجود خالق الكون و الناس الراسخة في الكيان و الوجدان كجزء لا يتجزأ من الذات و الحدس. تبرز هذه الحقيقة الكونية في إطارها المنطقي البدائي فتجد القبول و التسليم الطبيعي و الشبه غريزي دون أي اعتراض من طرف أي إنسان يبادر لأول مرة في حياته بإثارة موضوع الوجود. يستحسن البعض هذه الحقيقة الحدسية فيطمئن و يستأنس بها و يسعى لحمايتها و المحا فضة علي طبيعتها و تلقائيتها دون نبشها و إثارتها مخافة فقدانها. هذا الموقف ينطبق على كل من تناسقت أهواءه و ميولا ته و رغباته مع تلك الحقيقة الفطرية الحدسية أي من يتمنى و يرغب بكل جوارحه في و جود الخالق العظيم و الحكم القيوم على أمر الدنيا و المصدر الأساسي لتوازنه الوجودي و طمأنينته.
أكثرية الناس لا تقف هذا الموقف السليم و الطبيعي من الحقيقة الحدسية بل تسعي إلى نبشها و إثارتها بحجة تقييمها و التأكد من مصداقيتها عن طريق التحليل و التثبت و الاستنتاج المنطقي.الجميع يعلم أنه لا وجود لأي نوع من الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك الإثبات وأن الموقف الوحيد الذي ينطبق على الجميع دون استثناء هو إما الرفض التلقائي أم القبول التلقائي لتلك الفطرة. هذا النوع من البشر لا يريد الاقتناع بتلك الاستحالة المطلقة فيصر و يتعنت و يتوهم القدرة على تحقيق غرضه غرورا و استكبارا. لا تخضع تلك الفطرة بطبعها لوسائل التحليل و الإثبات فتتقلص و تنسحب نهائيا وذلك ما يريده هؤلاء أي التخلص النهائي من تلك الحقيقة التي لا تناسب أهواءهم و ميولا تهم و رغباتهم و تضايقهم في تنفيذ أغراضهم والعيش بالطريقة التي تستهويهم. الفرق بين الناس لا يكمن في اختلاف القدرات الفكرية و العلمية وإنما في اختلاف النسيج النفسي أي اختلاف الأهواء و الرغبات والطموح التي تأثر مباشرة على الإرادة وقرارها في القبول أو الرفض. و تلك مشيئة الله التي لا مبدل لها.
مبدأ الإسلام
أسلوب القرآن الكريم و طريقته في التعامل مع الإنسان تعتمد الحوار البناء الذي يفرض على العقل المخاطب الأساسي و الشرعي الالتزام التام بالقيام بدوره الريادي في الفهم و الإدراك بحكمة و ثبات لتقصي الحقائق ثم الاستنتاج المنطقي المقرر لمصيره و مصدر نجاته. هذا الموقف ينطبق على كافة التعاليم و الأخبار التي يقدمها قصد توفير الحماية التامة لمصير ذلك المخلوق المميز.
كل ما ورد في كتاب الله منطقي عقلاني ميسر للفهم و الإدراك من طرف العقل إذا قدر هذا الأخير على تنمية ملكاته و صقل مواهبه بما يمكنه من القيام بمسؤوليته أفضل قيام و قد يتبين له من خلال هذه القراءة أن أي موقف أو أي وضعية يعجز العقل عن إدراكها نظرا لمحدودية وسائله إلا و يوفر لها القرآن الكريم الأسباب المنطقية التي دعت بل حتمت استحالة إدراكها كي يضمن للعقل توازنه و وعيه وطمأنينته و اكتفاءه الذاتي.
إبراهيم عليه السلام هو أول من اكتشف مبدأ الإسلام وهو لا يزال في مقتبل عمره مما يدل على درجة وعيه وسعة حكمته التي لم يدركها أحد من العالمين.
عاش إبراهيم في مدينة أور البابلية ضمن قوم يدين للشرك و عبادة الأصنام مما أثار غضبه و نقمته إزاء تلك العقيدة الساذجة فسعى إلى نبذها و مقاومتها بشدة. أثار موقفه ذاك غضب أبيه آزر الذي حاول استمالته و ردعه لكن الفتى أصر على موقفه فقرر الأب طرد ابنه و التبرؤ منه.
غادر إبراهيم قريته عاقدا العزم على البحث و التمحيص و اكتشاف الخالق العظيم الحري وحده بالعبادة و التقديس.
استعان الفتى بما أوتي من قدرات و ملكات يتدبر من خلالها أمر الكون الشاسع العظيم فوقع اختياره على القمر ثم الشمس ثم النجوم و غيرها مما أوجت به مداركه ولكنه كان يتراجع بسرعة نظرا لخضوع تلك العناصر دون استثناء للنواميس الطبيعية التي تنظم حركتها أي لإرادة خارجة عن نطاقها مما يدل على عدم إلوهيتها. لم يهتد إبراهيم إلى الحل الذي كان ينشده و رغم كل ما بذله من جهد و صبر و مثابرة و حكمة و إصرار شديد فشل و خاب ولم يفلح في اكتشاف خالق الكون رغم قوة حدسه و صلابة فطرته التي ضلت تراوده دون انقطاع أو تلاشي. انتهى أمر البحث الذي بلغ أقصى حدوده و استوفى كل ما قدر الفتى على توفيره من وسائل و تحتم اتخاذ الموقف.هل يسلم إبراهيم بعدم وجود الله و يقر بعقيدة قومه؟ أصر الفتى على رفض ذلك الموقف لأمرين اثنين أولهما أن سذاجة معتقدات قومه واضحة جلية لا تستحق أي دليل إثبات.الأمر الثاني و الأهم هو أن فشله في اكتشاف الحقيقة الكبرى لا يمثل دليلا منطقيا على عدم وجودها بل يدل على افتراض آخر أقرب إلى المنطق و الحكمة يخص عدم صلاحية الوسائل التي استعان بها في بحثه و عدم مطابقتها لذلك الميدان المتميز بطبعه.
تمسك إبراهيم بالافتراض الثاني و قرر البحث على الوسيلة الصحيحة والتي تنطبق على ذلك الميدان المعرفي الرائد فتخلى عن الإمكانات و القدرات و المواهب الفكرية أي كل ما يستعين به الإنسان عادة في البحث و الاستنتاج و اعتماد الطريقة التي ترتكز على الموقف النفسي و المنطلق من ذاته والذي يدعمه حدسه الفاعل و المحّرك القوي للوجدان وذلك الموقف يتمثّل أساسا في الاعتراف الصريح بالفشل في اكتشاف الحقيقة العظمى والتعبير الصادق عن الأمل و الثقة التامة في الله و التعلّق الشديد بذاته باعتباره الوحيد الأوحد على تحقيق ضالة عبده. فكان له ما تمنى و زيادة.
فاز إبراهيم و فازت الإنسانية بالإسلام الطريقة المثلى و الوحيدة للبحث و الاستنتاج في الميدان العقائدي الشّديد الوقع على المدارك الفكرية مهما بلغ مستوى نضجها.
علم إبراهيم أن أمر العقيدة يتجاوز كل إمكانات الإنسان و أنه يرتكز على موقف المعني بالأمر من الناحية الأخلاقية بما تفرزه النفس من مشاعر نبيلة و ميول رفيع المستوى و تمسّك شديد بالحقيقة الفطرية والحدس التلقائي. تأكد ذلك الموقف في ما أقره بقوله عليه السلام :
« …قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ »
الأنعام 77
ثم
« إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ »
الأنعام 79
هذا الموقف العقلاني يمكّن العقل من الانتصار على ذاته و اقتحام ميدان معرفي لم يكن ممكنا من قبل فتتّضح الرؤيا أمامه ويتفوّق على كل العراقيل التي تحول دون تطوره.
يمكن للعقل أن يتصرف بحرية تامة في الميدان المادي مستعينا بملكاته و قدراته التي تمكنه من السيطرة علي الحقيقة المنشودة و اخظاعها لوسائل بحثه و تجاربه و إرادته كي يتسنى امتلاكها و استغلالها كما يشاء.
لا تنطبق هذه الطريقة على الميدان العقائدي لأن موضوع البحث هي الحقيقة الكبرى أي الخالق العظيم وهذه الحقيقة لها إرادتها الهائلة فكيف يعقل أن تخضع لإرادة الباحث و مراودته لها والتصرف فيها بحرية و إخضاعها لتجاربه ثم تقرير مصيرها بالاعتراف أو الرفض؟ ما عسى أن تكون قيمة ربّ يخضع بهذه الطريقة لإرادة الإنسان؟
في الميدان العقائدي تنقلب العلاقة جذريا حيث تستحوذ الحقيقة الكبرى على المبادرة و تتصرف في نتيجتها حسب إرادتها و مشيئتها و تقرر نتيجتها لا حسب قدرة الباحث و فطنته و ذكاءه و سعة علمه وإنما حسب موقفه الأخلاقي .إذا كان موقف الباحث ايجابيا من الناحية الأخلاقية و تبين أنه يستحق العون و التكريم فاز و انتصر أما إذا بدر منه أي ذرة من غرور أو كبرياء أو أي رذيلة أخري كان الرفض و الفشل و الخيبة و تلك إرادة الله التي لا مبدل لها.
إبراهيم هو أول من تفطن لخصوصيات طريقة البحث في الميدان العقائدي و كونيتها حيث لا يمكن لأي إنسان أن يتحدّاها مهما ارتفع علمه و وعيه و بذلك تكون التعاليم القرآنية قد وضعت كل شيء في نصابه ووفرت على التفكير مشقّة الخوض في ميدان العقيدة الأساسية كي يتسنى له تجاوز هذه الكبوة و الانصراف إلى البناء المتين للعقيدة مركز التطور و الرقي و الفلاح.
لم تقدّم التعاليم الدينية الإسلام كمبدأ أساسي و كطريقة مثلى و وحيدة للبحث في ميدان البناء العقائدي إلا خلال المرحلة التعليمية الأخيرةالتي تخلت عن المعجزة و اعتمدت الحوار مع العقل المخاطب الشرعي و القادر عل إدراك الأبعاد الكونية لموقف الإسلام .
طريقة البحث و الاستنتاج التي تخص البناء العقائدي هي القاعدة الأساسية والوسيلة الوحيدة التي فرضها الله بحكمته لتحقيق أهداف الوجود في ما يخص العنصر البشري أي الغربال و المسبر الذي يقيّم الإنسان بشرعية تامة ليحدد مصيره و يحقق عملية الفرز و الفصل و الانتقاء بين أولائك الذين توفرت فيهم الشروط التي تمكنهم من دخول طريق الهدي و السعي نحو الهدف المنشود و ربما تحقيق النجاح و الذين تبيّن من خلال موقفهم أنهم لا يملكون أي أثر لتك الشروط و الذين وجب إقصائهم مبدئيا أو نهائيا نظرا لرداءة تركيبتهم النفسية و عدم امتلاكهم لمتطلبات النشأة الثانية.