المراحل التعليمية
لا يليق بتفكير المسلم أن يتجاوز عقيدته و يتحدى مصداقية القرآن الكريم منبع الأخبار الثابتة ليستبدلها بإنتاج بشري بحجة انه صادر من لدن علماء مختصين في علم الأنطربلوجيا والتاريخ هذه العلوم نظرية تفتقر إلى البراهين العلمية الصلبة خاصة بعد أن ثبت لد ينا مدى انحياز هدا النوع من الباحثين للنظام المادي واختياراته الأساسية المناهضة بطبعها للعقيدة الإسلامية. لقد دأب هؤلاء على تطويع بعض الحقائق العلمية الصحيحة كغرائز النشوء والتطور والتكيف الطبيعي لوضع استنتاجات ملفقة في إطار أسلوب علمي مقنع لتمرير بدع لا أثر لصحتها. و رغم هشاشة بل و تفاهة تلك النظريات التي تهم بالخصوص تاريخ الإنسان و مهزلة انتماءه لفصيلة القردة فإننا نلاحظ بأسف شديد مدى إقبال العديد من مثقفينا على هده النظريات و التعلق بها كحقائق ثابتة غير واعين بالقول الفصل الذي ورد في كتابه الكريم و الذي يضمن للمؤمن حقه في الحماية من أي نوع من التحديات.
« وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا »
الفرقان 33
لا خوف إطلاقا على عقيدة المسلم الواعي من أي تحديات. هذا الضمان هو مشيئة الرحمان و إرادته في حماية المصالح العليا للمؤمنين .
خلق الإنسان
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغفل الدارس عن الإطار الأساسي والدائم للسلوك الرباني الملتزم بالحق و العدل و الدقة والكمال و اعتماد القوانين والسنن التي سخرها لضمان النجاح المطلق لمشاريع خلقه.
« وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ… »
الأنعام 73
« …وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا »
الفرقان 2
عندما أتم الله خلقه بدأ خلق الإنسان من طين لازب و كلمة ‘بدأ’ تفيد بأن عملية خلق الإنسان لم تكن وجيزة بل تطلبت فترة زمنية تقدر بملايين السنين أو مليارات فرضتها المراحل المتعددة للتحول الطبيعي للمادة وتطورها من مرحلة لأخرى حسب ما تفرضه قوانين الفيزياء والكيمياء التي وضعها الله عز و جل كأداة انجاز و تحقيق لإرادته بدقة حسابية علما بأن الله لا يسمح لنفسه أبدا بالتسلط على تلك القوانين العلمية التي جعلها قاعدة ثابتة لمسار خلقه.
« …وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا »
الفتح 23
لقد ورد في القرآن الكريم ما يكفي من الأخبار التي تساعدنا على إدراك كافة أطوار خلق الإنسان و التي تتجاوز بكثير كل ما أوردته نظريات الأنتربلوجيا المعاصرة. حسبنا قول الله تعالى مثل؛
« مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا »
نوح 13
« هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا »
الإنسان 1
إذا علمنا أن اليوم في القاموس القرآني يقاس حسب أبعاد عدة وهي؛ ألف سنة, خمسين ألف سنة أو فترة جيولوجية تقدر بملايين السنين فان عبارة ‘حين من الدهر’ تكون أبعد بكثير لتدخل ضمن فسحة الزمن الرباني الذي يقاس بمليارات السنين.
بقي لنا أن نتناول بالدرس والتمحيص مهزلة القرابة بين الإنسان و القرد التي ابتدعها المضاربون للتظليل والتسلط على العقول الضعيفة و التثبت مما تكرم به القرآن الكريم من تعاليم تضمن للمؤمن الواعي حقه في الحماية و الحفظ .
يقول المولى عزّ و جل
« وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ »
البقرة 31
عقل الإنسان هو أعظم حاسوب وضع في الكون أوكلت له مهمة الاستغلال لمصادر المعرفة و اكتساب الوعي وتحقيق أعلى درجات النمو و التطور و تمكين دلك المخلوق المتميز من القيام بدوره الريادي ضمن المشروع الكوني العظيم. لكن هدا الحاسوب الريادي كغيره من الحواسيب لا يمكن له أن يقوم وبضيفته إلا إذا توفرت له البرمجة العلمية الأساسية و قد تحقق له ذلك .
الطريقة التي يعتمدها المولى في انجاز مشاريع خلقه تليق بمقامه الجليل فهو عز و جل يضع برنامج خلقه وكافة ضمانات نجاحه ويدفع عملية الانجاز بكلماته فتتحقق إرادته.
« إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »
يس 82
حيث تكون عملية التعليم المشار إليها لا بالطريقة الأكدمية التلقينية و إنما عن طريق البرمجة العلمية التي تزوّد العقل بميادين معرفية متكاملة دفعة واحدة و التأكيد على كلمة ‘كلها’ تثبت أن الأمر يخص البرمجة الأساسية التي مكنت العقل من أداء وضيفته الحاسمة على أفضل وجه.هكذا يوفر لنا كتاب الله القول الفصل الذي يضع حدا نهائيا للجدل والمضاربات حول قضية القرابة بين الإنسان و القرد و التي راح ضحيتها العديد من مثقفينا.
لقد مر الإنسان بظروف تاريخية مظلمة حالكة و مراحل عجز تام و انحطاط وعجرفة وتحجر مخيف رهيب تضعه في أدنى مستوى عرفت به مخلوقات الكون بعيد كل البعد عن الحيوان الذي يتمتع مند بروزه على الأرض بتوازن تام في سلوكه و علاقته بمحيطه أي بغرائز طبيعية تضمن له دلك التوازن مما جعله يتفوق على الإنسان موقفا وسلوكا لكن مع الزمن قدر هدا المخلوق على الخروج من مذلته و الارتفاع بنفسه و تحقيق نموه و تطوره وتفوقه المطلق على جميع المخلوقات و السبب الأساسي في دلك التحول الهائل يعود أصلا إلى تلك البرمجة العلمية التي وضعا المولى ضمن الذاكرة التاريخية للعقل البشري دون سواه.
الإنسان مهيأ لبلوغ أقصى درجات التطور لأن عقله مزود بالبرمجة الأساسية التي يقدر على استغلالها متى تيسر له دلك أما القرد الذي ينتمي لفصيلة الحيوان وسيضل فهو يتمتع بغريزة التقليد وتلك الغريزة الطبيعية تمكنه من القيام بحركات ذكية للغاية مثل التعامل مع آلات الكترونية معقدة أو النطق ببعض الكلمات لكن هدا القرد يقف عند المستوى الذي نتركه عليه ولا يمكنه أن يتقدم بنفسه وعن طريق مبادرته الذاتية ليستنبط ويرتقي ويدرك المجهول أي يتجاوز ميدان التقليد الغريزي و هنا يبرز الفرق بين الإنسان المؤهل للتطور لأن عقله مدعم بالبرمجة العلمية والقرد الذي يفتقر كليا إلى تلك البرمجة الأساسية الحاسمة التي تضع كل منهما في مكانه والتي تفند بشدة استنتاجا عشوائيا ساذجا لا قيمة له من الناحية العلمية.
التعاليم الدينية تستدرج العقل برفق لتمكنه من الفوز بالحقائق التي تبني قناعاته و إعانته خاصة على الإحاطة بمجموعة الحقائق الغيبية المستحيلة الإدراك بتوفير الأسباب المنطقية لتلك الاستحالة و التي تيسر على العقل قبولها مثل قوله تعالى
« لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »
الأنعام 103
هذه الآية الكريمة تثبت بأن الجدال و البحث و الاستكشاف في ذات الله أمر يستحيل إدراكه. العلم هو سلطان عظيم يمكّن صاحبه من التصرف بحرية في كل الميادين التي بلغها علمه. من حق الإنسان التصرف و الهيمنة على ميدان المادة و إخضاعها لإرادته و حاجاته ما دام قد أدركه بعلمه و سلطانه. لكن هل يحق لهذا المخلوق أن يعلم كل شيء عن ذات الله و أن يمارس ما يوفره ذلك السلطان العظيم من هيمنة و سيطرة على ربه و مولاه؟ وما عسى أن تكون أوضاع مشروع كوني يخضع لسلطان الإنسان و إرادته؟ عندما يحيط العقل بهذه الوضعية فانه يقتنع و يقر بها إقرارا تاما يدعم به عقيدته الأساسية التي تزداد قوة و متانة و ذلك هو أسلوب القرآن في تعامله مع العقل وحرصه على تنميته و صقل مواهبه إلى أبعد الحدود خلافا لمواقف العديد ممن يدعون العلم والمتمثل في اهانة العقل و كبته و إقصاءه و التسلط عليه فلا يمكن أن يغيب عن أذهاننا أن الغاية الكبرى للتعاليم القرآنية هي رفع مستوى الإنسان إلى أعلى مستوى النضج و الاكتمال والحرية و التطور في أوسع مظاهره.
مكانة الإنسان في الكون
« وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… »
البقرة 30
الآية الكريمة ورد ت في صيغة دقيقة للغاية تدل بوضوح على أن دور الخلافة مرجو للآخرة حيث تكون الحياة الدنيا بالنسبة للإنسان مرحلة تعليمية إعدادية تمكنه من اكتساب القدرات الضرورية لأداء ذلك الدور الريادي و القيام بمسؤولية الخلافة بما تفرضه من مثالية يبلغها بعضهم بعد جهد جهيد ومواجهة مضنية في آخر مراحل حياته الدنيا و بذلك تتحقق إرادة الله والهدف الأساسي من خلق الإنسان أي استخلاص الثلة الصالحة للقيام بالدور الذي جعله الله جزءا لا يتجزأ من مشروع خلقه العظيم و ما يفرضه من موازين. لقد تبين لنا من خلال الومضات التعليمية مدي صلابة الإرادة الربانية في إخضاع مشروع خلقه لسنن الحق والعدل و جعل كل حركات التطور تسير بتلقائية تامة وبشرعية مطلقة دون أي تسلط أو إكراه مهما كان نوعه وذلك ينطبق على كافة العناصر المكونة لهدا المشروع العظيم .
بعد أن أتم الله خلق آدم من الناحية المادية الجسدية سعى إلى تدعيمه بكافة العناصر التي تمكنه من ممارسة دوره الريادي وتحقيق الهدف من وجوده المتميز وأولها بل و أهمها على الإطلاق النبذة الربانية المتأتية من روحه الكريمة و التي نفخها فيه كمصدر قوة و مناعة و حرية و اكتفاء و هيمنة وسيطرة و انتصار على مشروع و جوده و التحكم فيه بما تقره إرادته الذاتية .
العنصر الثاني الذي تحتم تركيزه في الإنسان يتمثل في أخطر وأعنف و أشد ما يمكن أن يبتلى به مخلوق في هذا الكون وهي تلك التركيبة الثلاثية الأبعاد أي الجسدية والفكرية و النفسية المتضاربة و المتصارعة مصدر أشد و أعنف ما يمكن أن يتحمله مخلوق من ضغوطات صلبة يصعب وأحيانا يستحيل مقاومتها وترويضها.
هكذا أتم الله إعداد العنصر البشري بحكمة و في شرعية تامة لممارسة حياته الدنيا و مواجهة مصيره بحرية و دون إكراه فإما شاكرا وإما كفورا. إما واعيا بعظمة مسؤوليته وخطورة مصيره و إما غافلا تائها في غابات الجهالة
لو اعتمدنا موقف المولى عز و جل و المتمثل في التزامه الأبدي بالحق والعدل و نبده للظلم و التسلط و الإكراه فما عسى أن يكون موقف الإنسان و دوره في تقرير مصيره و تحمل نتائجه. هل للإنسان باع في اختيار هذا المصير ؟
الجواب عن السؤال ورد في قوله تعالى:
« إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا «
الأحزاب 72
الأمانة هي المسؤولية و الالتزام في كل أبعادها و من ضمنها اختيار الإنسان لمصيره بنفسه دون تسلط أو إكراه فلا يهم متى وقع ذلك الاختيار نظرا لقدرة المولى على إدراك صيرورة الأحداث و نتائجها قبل وقوعها مما يجعله يعلم مسبقا بما سوف يتخذه الإنسان من قرار فيحدد على ضوءه ما لزم تحديده . لقد سبق في علم الله أن الإنسان هو الوحيد القادر على طلب الأمانة والالتزام بصيانتها نظرا للنبذة الربانية التي تسكنه والتي سوف تتحرك تلقائيا لتفرض على العالمين أفضلية ذلك المخلوق ومدى قدرته على تحدي المستحيل وتحمل العبء الثقيل للأمانة . يقول المولى عز وجل :
« وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ »
الأعراف 172
مما يدل على أن قبول الأمانة لم يكن عن طريق آدم بمفرده بل من طرف البشرية جمعاء أولها و آخرها وقد تحقق خلال فسحة زمنية ربانية لا يعلمها إلا هو سبحانه العليم بغيب السماوات والأرض.
هكذا تبرز قيمة الإنسان و المكانة التي تميزه عن غيره من المخلوقات و يتجلى مصيره في وضوح تام مصير صعب محفوف بالمخاطر و المكاره ديدنه الصبر والتجلد و المواجهة والانتصار الذي يضمن له السلامة و الفلاح يسعى بكل حزم لتنمية قدراته إلى أقصى حد ممكن ليخلص نفسه من رذائلها ويزكيها بوشاح الفضائل حتى يضمن طهرها و رفعتها و عزتها و كرامتها فيدرك مثالية الخلافة التي تمكنه من ممارسة مسؤوليته الكبرى باقتدار خلال النشأة الثانية ضمن ما يوكل إليه من
ملك يعجز الخيال عن تصور مكوناته و عظمته و جماليته في عالم الجنة و الخلود الذي وعد الله به عباده الصالحين.
« …وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ «
آل عمران 133
السماوات والأرض تعني الكون بجميع محتوياته و الذي تكفل الله بإعادته كما كان أول مرة
« … كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ »
الأنبياء 104
مع تطهيره و تخليصه من كل شائبة وخبث و تزويده بما يستحق من جمالية و رغد يهبها الله لعباده الصالحين الذين قدروا على بلوغ مثالية الخلافة و إدارة ذلك الملك العظيم بصدق و أمانة و أخلاق سامية شاملة اكتسبوها بجهد جهيد و مجابهة ضارية فتطهروا و زكت أنفسهم وبلغت أعلى مراتب العزة و الكرامة فتأهلت عن جدارة للقيام بمسؤولية الخلافة.
هذا الهدف العظيم الذي يفسر السبب الأساسي من خلق العنصر البشري يتحقق بصفة تلقائية و بشرعية تامة عن طريق المبادرة الذاتية و الإرادة الشخصية التي تشحذ لدى الفرد عزيمة السعي و الانتصار و قد سخر المولى كافة الوسائل التي تجعل نجاح الإنسان مشروعا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتخلله نقيصة .
لقد ثبتت أفضلية الإنسان و رفعته عبر قوله تعالى
« فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ »
ص 72
و ما أمر الله ملائكته بالسجود لآدم إلا دليل على شرعية التفوق و الأفضلية والمكانة الرفيعة التي يتمتع بها هذا الكائن و عظمة الدور المناط بعهدته على مستوى الخلق.
لم يدرك ملائكة العرش ومن حوله خاصيات دلك المخلوق و قيمة دوره وضخامة مسؤولياته وطبيعة القدرات التي يتمتع بها بل وينفرد بها دون غيره من مخلوقات الكون و قد برز دلك الاستغراب و تلك الحيرة في موقف الملكين هاروت وماروت و ما نتج عنها من أحداث تكرم الله بها على ملائكته لتمكينهم من إدراك كنه الإنسان و شرعية رفعته والأسباب التي حتمت خلقه.
من خلال التجربة الميدانية أدرك الملكان يقينا أن التركيبة العامة التي ابتلى الله بها الإنسان لا يمكن أن يتحملها أحد غيره من العالمين و أن الإنسان بمفرده هو القادر على مواجهة أعنف مصير عرفه الكون. و تغير موقف ملائكة السماء الذين سعوا مباشرة إلى دعمه و مساندته بالصلاة عليه والدعوة له بالعون والحماية والحفظ و العفو والغفران. لكن هل أدرك هذا المخلوق كنهه و مكانته و عظمة أمره؟
التعاليم الدينية
لو اكتفى الإنسان بوسائله مهما تطورت فانه لن يقدر على إدراك كنه ذاته ومكانته والهدف الأساسي من خلقه و بالتالي فان حياته لن تكون على المستوى المطلوب لأن كل الأخبار التي تخص وجوده غيبية تنتمي إلى إطار معرفي لا يقدر عليه إلا خالق الكون و المقرر الأوحد للمصير مما يحتم عليه اللجوء إلى هدا المصدر المعرفي و الاستعانة به كوثيقة عمل حاسمة لا جدال فيها.
صحيح أن العقل البشري مدعم ببرمجة علمية عظيمة المستوى و ميادين معرفية عديدة و متنوعة لكنها محدودة لا من ناحية سعتها ولكن من ناحية نوعها وطبيعة ميدانها. من الطبيعي جدا أن يتصرف الإنسان بكل حرية ودون أي حد في العلوم المادية التي وضعت على ذمته أما بالنسبة للميادين المعرفية التي لم يقع إدماجها ضمن البرمجة الأساسية و من بينها كنه ذات الله و مشروع الخلق في ما يخص الأسباب و الوسائل والأهداف فانه يضل عاجزا تماما لأن تلك الميادين العلمية غيبية أي مغيبة عن الإنسان حرصا من الله على سلامة مشروع الوجود وحمايته من أي خطر.
ترتكز حركة البحث العلمي على الإيمان الحدسي بوجود الحقيقة ثم تخيل الطريقة التي تيسر اكتشافها و التصرف فيها. الخيال يمثل حركة البحث و الاستكشاف ضمن البرمجة العلمية التي و ضعت على ذمة العقل البشري مند الأزل واستدراجها في إطار منهجية منطقية للغاية تعتمد المعلوم لبلوغ المجهول.أما بالنسبة للعلوم الغيبية والمغيبة عن العقل فان الأمر يختلف تماما نظرا لعدم وجود أي نوع من المعطيات التي تخص دلك الميدان ضمن رصيد العقل من المعطيات الأساسية و كلما حاول الإنسان الاتصال بمجموعة الحقائق الغيبية مثل ذات الله أو صيرورة الوجود فانه يصطدم بفراغ تام نظرا لخلو البرمجة الأساسية من أي أثر لتلك الميادين المعرفية. ‘كلما تخيلت فهو غير ذلك’
التعاليم الدينية توفر الحماية التامة للعقل فتحدد منطقة نفوذه وتحذره من مغبة تحميل عقله ما لا يتحمل أو أن يخوض في ميادين معرفية غيبية تتجاوز امكاناتة فيتسبب في تدمير مصالحه العليا فيفشل ويخيب . الاعتماد على الحكمة هو الإطار الأمثل للحركة الفكرية و حماية العقل من آفة الإفراط و الالتزام بالموضوعية التامة بدل الغرور و التكبر الكاذب.
مصير الإنسان
الهدف الأساسي من خلق الإنسان ورد بوضوح تام في قوله تعالى
« وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… »
البقرة 30
هذا الخليفة يرث الجنة و يمارس الدور المناط بعهدته ضمن مسؤولياته الكونية والتي لا يعلمها إلا الله عز و جل خلال النشأة الثانية نشأة الطهر و الكمال و التي لن تتخللها أي نقيصة أو ذرة من خبث.
اعتمادا على تلك المواصفات يمكن الجزم بأن الإنسان الذي يدرك تلك المكانة الرفيعة يكون قد حقق لنفسه كل الشروط التي تضمن دخوله الجنة و القيام بالدور المرتقب أي مثالية الخلافة كما حددها الله في قوله تعالى
« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «
الشمس 10
و ذلك يعني حتما طهارة النفس من جميع أدرانها واكتسابها كافة الفضائل التي تضمن لها القدرة التامة علي ممارسة مسؤولية الخلافة دون أي خلل أو نقيصة كما يؤكده رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم في قوله الفصل
‘لن يدخل أحدكم الجنة و في قلبه ذرة من حقد’.
من هنا ندرك تمام الإدراك أن أي رذيلة أو جزء من رذيلة بقي عالقا بالنفس هو بمثابة الحاجز المنيع الذي يحول دون دخول الجنة و تلك إرادة الله و قراره في ضمان الطهر المطلق للنشأة الثانية.
لقد وضع الله كل الوسائل الكفيلة بتحقيق الانتقاء والفرز على مستوى العنصر البشري واستخلاص الثلة القادرة على القيام بدور الخلافة خلال نشأة الطهر والخلود علما أن دوام الآخرة و سلامتها وخلودها يعود بالدرجة الأولى إلى طهرها و خلوها من أي نقيصة أو خبث و تلك مشيئة الله في توفير القواعد الأساسية لنجاح مشروع خلقه.
التعاليم الدينية
لقد حرص الله الحق الله العدل على توفير كل الحماية و الدعم للإنسان حتى يتمكن من مواجهة مصيره المحتوم و تحقيق أعلى درجات النجاح و الفلاح بكل ثقة وثبات خاصة و قد أثبتت كل الدراسات الموضوعية عدم وجود أي مصدر معرفي يخص مشروع خلق الإنسان من حيث الأسباب و الوسائل و الأهداف باستثناء التعاليم الربانية وعلى رأسها الإسلام. لذلك فقد تحتم على كل من يحرص على حماية مصالحه العليا امتلاك هذه المعرفة والاهتداء بها.
التطور المنطقي للتعاليم
ليس من مصلحتنا اعتماد المراجع الأنتربلوجية لفهم مختلف مراحل التطور البشري عبر الزمان أولا لأن مادة التاريخ معرضة بدرجة كبيرة إلى الانحياز و قد ثبت ذلك الانحياز مرارا خاصة عندما يتعلق الأمر باختيارات عقائدية سياسية ثانيا لأن استنتاجات الأنتربلوجيا نظرية ينقصها الإثبات و البرهان. من هنا وجب تركها من طرف المسلمين ما دام القرآن يغني عن أي مسألة من هذا النوع نظرا لما يوفره من محطات تاريخية وجيزة للغاية ولكنها آية في الدقة والضبط.
انطلق تاريخ الإنسان منذ بروز آدم على الأرض. المرحلة التاريخية المتقدمة جدا و التي مر بها هذا المخلوق كانت قاسية ومأساوية إلى أبعد الحدود. خلافا للحيوان الذي كان يتمتع منذ بدايته بتوازن تام عن طريق مجموعة الغرائز الطبيعية المحددة لسلوكه ضل الإنسان يعاني أزر أهواءه القاسية و المتصلبة إلى أبعد حدود القسوة و التصلب عاجزا عن الارتفاع بذاته والخروج من مرتبته المتدنية نظرا لما تمثله نفسه من تحجر و قسوة و عنف شديد وما ينعكس عنها من شدة و غلظة و فضاضة لازمت سلوكه و مواقفه طيلة عهود زمنية عميقة. لعل أهم ما ورد علينا من أخبار تخص تلك الحقبة الزمنية هو الوصف القرآني لتلك الأجيال الضاربة في القدم ب »القوم العمين » و خبر التوراة الذي جاء في سفر التكوين ‘ علم الرب أن كل مشاعر الإنسان كانت متجهة نحو الشر دون سواه ‘ مما يدل على أن ذلك المخلوق لم يكن قادرا على إنتاج أي موقف ايجابي فيه خير و رحمة.
يمكن القول أن سبب ذلك الانعراج الخطير يعود إلى موقف آدم من التعاليم التي تلقاها والتي نسيها ولم يبلغها لخلفه كسند تربوي عظيم التأثير و الفائدة كما ورد في قوله تعالى :
« وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا »
طه 115
وهو ما يدل على أن آدم كان نسيا و أن آفة النسيان هذه تسببت في انعراج خطير لعديد الأجيال المتقدمة. تلك الحالة المأسوية تطلبت التدخل السريع المتمثل في توفير العنصر الأساسي للتطور و تدعيم النسيج النفسي بمجموعة الظواهر الايجابية القادرة علي تنمية المدارك النفسية التي تتحكم في الموقف و السلوك عن طريق أبجديات الفضائل مثل المحبة و الرأفة والرحمة و التآخي و التعاون و التي تعتبر حاسمة لدفع ذلك المخلوق نحو التطور . لا بد من إدماج العنصر الثقافي لحماية الإنسان و انتشاله من تلك المرتبة المشينة و تحريره من هيمنة أهواءه القاسية.
نحن نعلم أن الثقافة ليست تلقائية بل مكتسبة و نعلم كذلك أن, خلال تلك الفترة التاريخية العميقة, المصدر التثقيفي الوحيد كان,حتما , الرسالة الدينية المسؤولة على تأطير الإنسان وحمايته من الضياع و استدراجه نحو التحضر.
انطلقت المواجهة الضارية والتصادم العنيف بين الرسالات الدينية و الجبلة القديمة القاسية و المتحجرة وتوالت الحملات التوعوية دون انقطاع ساعية إلي تحريك سواكن الإنسان و تدعيم نسيجه النفسي بأبسط مشاعر الخير و اللطف و غيرها من أبجديات القيم الأخلاقية التي بدونها لا يمكن لهذا المخلوق المتصلب أن يرتقي بنفسه و يقتحم ميدان التطور.
لقد ركزت الرسالات الدينية كل اهتماماتها حول النسيج النفسي العنصر الأول و الأهم بالنسبة لمشروع التطور و الرقي و رغم ضآلة نتائجها و فشلها وخيبتها تواصلت تلك الحملات التوعوية دون انقطاع.
الفترة التعليمية الأولى
تمثل الفترات التعليمية الأولى أشد المراحل قسوة وأطولها زمنا وأعظمها تأثيرا. غطت تلك الفترات ما يمكن تقديره بعشرات بل بمئات الآلاف من السنين وهي التي حددت مصير البشرية وقدرت على وضعها في المسار الصحيح ووفرت لها كافة وسائل التطور والتحضر و الفلاح وأعدتها أفضل إعداد لمجابهة متطلبات وجودها.
المحطات التاريخية التي و ردت في القرآن الكريم وجيزة للغاية لكنها بليغة و كافية لتقديم أهم الأخبار التي تخص الفترة التعليمية الأولى :
1 – نوح , عليه السلام, يتوسط تقريبا تلك المرحلة وقد عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وهو ما يمكن اعتباره متوسط عمر الإنسان خلال تلك الحقبة الزمنية المتقدمة و السبب المنطقي في إطالة العمر إلى ذلك الحد هو النسق المتدني و البطيء جدا لتطور الإنسان. كان لا بد من ذلك عسى أن يتمكن هذا المخلوق الأعزل و المتردي من تحقيق أدنى مستوى ممكن من التحول.عندما تحسنت أحوال الإنسان و نمت نسبيا قدراته و ارتفعت درجة وعيه انحدر عمره ليستقر حول المائة سنة أي ما يقدر الإنسان الواعي على تحمله.لكن كم تطلب ذلك التغيير الكبير في عمر الإنسان والتحول الهائل الذي طرأ على جسده ؟ لو أخذنا بعين الاعتبار الطريقة الربانية للخلق والانجاز التي تعتمد الحق أي التطبيق الحرفي للقوانين العلمية الكونية وعلاقتها بخاصية التطور والتأقلم الطبيعي للأجناس يمكن القول بأن عملية التحول هذه قد تطلبت فترة زمنية هائلة تقدر بعشرات آلاف السنين وربما مئات آلاف مما يدل على تفاهة الرزنامة الاسرائلية و عدم واقعيتها بالنسبة لتاريخ البشرية.
2 – رسالة نوح توفر لنا كل الأخبار التي تخص الفترات التعليمية الأولى وخاصة تلك الجزئيات البليغة التي تدل على حكمة المشروع التوعوي من حيث طرقه البدغوجية و وسائله وأهدافه.
تواصل التركيز على النسيج النفسي أهم محور العمل و الاستغلال و تواصلت عملية الانتقاء والفرز على مستوى المجتمعات البشرية قصد استخلاص الثلة البشرية المدعمة بالقدرات النفسية الضرورية والكفيلة باقتحام ميدان التحضر.
أ ما الوسيلة التي استعانت بها تلك الحملات الحاسمة فهي بدون شك التوحيد لا كغاية في حد ذاتها و إنما كعنصر تحريك وإثارة للنسيج النفسي وكشف مكوناته ايجابية كانت أم سلبية.
يقدم الرسول محتوى رسالته التوحيدية المتكونة من حقائق غيبية مجردة كوجود الله الخالق والنشور والحساب و الجزاء و العقاب والجنة والنار دون توفير أي دليل مادي يثبت ما يدعيه وبالطبع يحدث ما كان متوقعا أي الرفض التلقائي من طرف الأغلبية الساحقة التي تفتقد كليا العناصر التي تمكنها من الإيمان و القبول بالحقائق الغيبية وهي القدرات النفسية أي مجموعة الفضائل التي تمتلك بمفردها مبادرة الإيمان لدى الإنسان عامة مهما كان مستواه.
صفات الله و أسماءه الحسنى التي يقدمها الرسول لقومه مثل الحق و العدل والرحمة و اللطف والعفو والغفران و العون و الحلم الخ..هي المؤثرة القوية التي تحرك الوجدان وتجعل كل من يمتلك هذه الفضائل أو ما قل منها ولو فضيلة واحدة يشعر بالميل والمحبة ولربما بالتعلق نحو الخالق فيؤمن بالرسالة ويسعى لحماية إيمانه فتتحقق عملية الفرز والانتقاء على مستوى القوم و تستخلص الثلة التي تمتلك ضمن نسيجها النفسي ما تيسر من القدرات التي تساهم في بناء مشروع التطور و التحضر و الرقي وبناء إنسانية مؤهلة و قادرة على مواجهة متطلبات مصيرها ويقع الحسم أي يحتفظ بالثلة القليلة المؤمنة و تدمر الأغلبية الكافرة التي لا يرجى منها أي خير بل كل شر نظرا لسلبية نسيجها النفسي المتكون من الرذائل المدمرة للمصالح العليا التي وجب التخلص منها حتى لا تنتقل للأجيال الموالية عن طريق الوراثة و التقاليد فتكون أشد منها قسوة و تخلفا و تتسبب حتما في تأخير مشروع التطور. يمكن القول إذا أن عملية التدمير الجماعي قد حتمتها الظروف والمصالح لا عن قسوة أو حب في الانتقام تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
« وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا »
نوح 26
رغم ضآلة نتائجها على مستوى الكم فقد حققت الفترات التعليمية الأولى أهدافها لأن تلك النتائج كانت منتظرة ومطابقة تماما لظروف البشرية آنذاك و قد تأكد ذلك في موقف الله من تذمر نوح حيث قال :
« وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ… »
هود 36
عملية التدمير الشامل للكفرة هي المعجزة الربانية التي تحدث في أوانها أي بعد عملية الفصل والانتقاء حتى يتحقق الفرز في شرعية تامة ودون مؤثرات خارجة عن إرادة المعني بالأمر و هي في نفس الوقت السند العظيم الذي يدعم إيمان الثلة و يرفعه إلى درجة اليقين و يساعدها على بناء تقاليد توحيدية جديدة تنمي المدارك النفسية ثم المدارك الفكرية التي تنتشر عبر المحيط الأسري و تنتقل عبر الأجيال المتتالية عن طريق الوراثة وتتحسن أحوالها ولو جزئيا.
المآل المحتوم للرسالات الأولى
مع مرور الزمن و موت الرسول وتوالي الأجيال و تقلص مفعول المعجزة الربانية يتدنى مستوى الإيمان فيفقد المؤمن سنداته و يرتبك ويحتار لأن عقيدته بدأت تختل فيسعى جاهدا لحمايتها بوسائله المتواضعة جدا.
من ناحية أخرى و نظرا لما حققته الرسالة من حركية و تطور على مستوى النسيج النفسي تنمو المدارك الفكرية بدورها فتتحرك بعض الملكات وفي مقدمتها ملكة الخيال التي أخرجها محتوى الرسالة الدينية, المتكون من حقائق غيبية مجردة, من سباتها ودفعها نحو العمل. اقتحمت ملكة الخيال وهي أهم المدارك الفكرية ميدان الإنتاج ولكن رداءة الأحوال وفقرها من الناحية الثقافية و انعدام الحكمة و الغياب البارز لبصيرة المنطق ضل خيال البدائي فوضوي للغاية يتخيل كلما شاء دون التمييز بين الممكن والمستحيل وبين المعقول واللامعقول أو بين المحتمل والحتمي.
تلك الانطلاقة الفوضوية أثرت سلبا على أهم العناصر التنموية آنذاك أي التوحيد الذي تحول عن طريق ملكة الخيال إلى شرك و تعدديات و ميطلوجيات معقدة قلبت كل الموازين. المحافظة على العقيدة التوحيدية في إطارها الغيبي أمر شبه مستحيل بالنسبة للبدائي خاصة إذا فقد الدعم القوي الذي توفره بعض العناصر فيلجأ إلى ما يوفره خياله فيشخص آلهته في صنم أو ما شابه ذلك ماديا حتى يطمئن على وجودها ويضمن ترفه العقائدي ليدعمها بإطار أسري ثم إطار اجتماعي فتتعدد الآلهة وتتعدد وظائفها ويتحول التوحيد إلى شرك ومطلوجيات معقدة أنتجها الخيال و فرضتها حاجة الإنسان البدائي إلى الطمأنينة والترف العقائدي. كل الرسالات التوحيدية الأولى تقريبا تتعرض لظاهرة التشخيص المادي وكلما تتطور الخيال البشري كلما ابتعدت عقيدته عن إطارها التوحيدي. و بمرور الزمن و تطور التفكير تحول محتوى الرسالات التوحيدية إلى إنتاج فلسفي ثقافي فني لا صلة له إطلاقا بالعقيدة الشرعية كما هو الحال بالنسبة للهندوسية و البرهمانية و البوذية و غيرها كثير. ذلك التغيير الهائل وما تحقق من خلاله من تطور فكري ثقافي و فني هو النتاج الطبيعي للحركة التوعوية الدينية التي قدرت على تحقيق التحول العظيم لمستوى الإنسان و تنمية ملكاته.
رغم الانعراج الخطير للعقيدة التوحيدية ,فقد سجلت الفترات التبليغية الأولى نجاحا كبيرا لأن المحور الأساسي لعملها ضل دائما و أبدا النسيج النفسي الصعب المراس مصدر قوة الإنسان و سلامته و نجاحه أو فشله و خيبته. النمو الفكري و الثقافي و الفني يعتبر كسبا طبيعيا نتج تلقائيا عن حركة التنمية العقائدية التي تواصلت على أشدها لتنمية الملكات والقدرات النفسية و تدعيمها بما يكفي لاكتساب الوعي التام بالذات والتحديد المنطقي لمكانة الإنسان وضخامة مسؤوليته والتزاماته الكونية ومصيره على الأمدين العاجل و الآجل.
أخيرا و بعد مواجهة ضارية تجاوزت كل المقدرات من حيث مدتها الزمنية الهائلة قدرت الفترات التبليغية الأولى على بناء توازن الإنسان من الناحية النفسية الوجدانية فاكتسب ذلك المخلوق وعيه وقدرته على التمييز بين الخير و الشر و تحديد مسؤوليته وقدر على اقتحام مرحلة جديدة لم يعهدها من قبل مرحلة تحول حاسمة تمكنه من بلوغ أرقى مستويات التحضر والنضج.
حدث ذلك التحول الهائل مع بروز إبراهيم عليه السلام أبو الإسلام الذي كلفه ربه بإعداد الإطار الأساسي لبدء مرحلة تعليمية جديدة و حاسمة بالنسبة لمصير البشرية.
التعاليم العصرية
لقد شملت الحملة التعليمية الأولى كافة أرجاء المعمورة ووفرت للإنسان حيث ما وجد كل وسائل النمو و التطور و تواصلت تلك الحملات دون انقطاع مستعينة بتقنيات آية في الدقة و الإحكام. وسائل علمية حكيمة وطرق بدغوجية مطابقة تماما لظروف المجتمعات البشرية عبر مختلف مراحل تحولها بلغت أهدافها بثبات فأدركت نجاحها رغم الصعوبات التي يستحيل منطقيا تجاوزها و تذليلها وتمكنت, عن طريق الفرز والانتقاء الطبيعي,من بناء سلالة بشرية جديدة مؤهلة للتطور رغم ما تطلبته المصلحة العليا و المصيرية من تضحيات جسيمة تمثلت في عمليات المحق الجماعي لأجيال متتالية راحت ضحية عجزها التام وتحجرها المطلق و عدم قدرتها على مسايرة متطلبات التطور الحاسم بالنسبة للمصير.
رسالة إبراهيم
إلى حد الآن تمكنا من إدراك ما لم نكن نتوقعه من قبل أي القاعدة التي ارتكزت عليها التعاليم الدينية والمتمثلة في منهجيتها الرفيعة المستوى التي حددت أساليب عملها من حيث الطرق والوسائل والأهداف بدقة بالغة تهيأ لمشروعها كل ضمانات النجاح مهما كانت الظروف ومهما تردت الأحوال.
وسوف تتضح معالمها أكثر فأكثر من خلال انجازها للمرحلة التعليمية الموالية التي تثبت لنا أن الدين علم بالمعنى الاشتقاقي للكلمة بل موسوعة رائدة قائمة الذات تتحدى أي نوع من المضاربات مهما كانت و مصدر معرفي أوحد لا نضير له مختص في ميدان علم الوجود وعلم الإنسان و الوصفة العلمية الدقيقة لمشروع الحياة.
جاء إبراهيم عليه السلام عندما أتمت الفترات الأولى أعمالها و حققت غايتها المتمثلة في إعداد البشرية التي تطور وعيها بذاتها و توازنها النفسي لمشروع نهضتها وبناء حضارتها.
انحصرت مهمة إبراهيم أولا في تفكيك رموز العقيدة وتحديد الأبعاد المنطقية للإسلام كموقف عقلاني للإنسان الذي يواجه ميدان معرفي مستحيل الإدراك يتجاوز كل الإمكانات البشرية و لو اجتمعت وهذه المهمة الرائدة سوف تضل قائمة دائمة عبر مختلف الأزمنة و العصور كمرجع أساسي للتفكير يخص كنه العقيدة التوحيدية و مقوماتها المنطقية.
المهمة الثانية تتمثل في إعداد الإطار البشري وتأهيله لاحتواء رسالة موسى عليه السلام والتفاعل معها بما يؤمّن غايتها وأبعادها الحضارية الهائلة.عمل إبراهيم على تحرير قومه من هيمنة الشرك و الوثنية والتعددية التي انتشرت بين الأقوام خلال تلك الفترة و تعويضها بفكرة التوحيد العنصر الأساسي لتحرير الإنسان من هيمنة محيطه الطبيعي المادي. انتصر الخليل وارتكزت فكرة التوحيد فتناقلته الأجيال ضمن تقاليدها واكتسب بنو إسرائيل قدرات جديدة تمكنهم من احتواء رسالة موسى و الاستجابة لمتطلباتها.
رسالة موسى
الفترات التعليمية الأولى استعانت بالتوحيد كوسيلة وكمؤثرة قوية قادرة على اقتحام النسيج النفسي وإثارته وتحريك سوا كنه و إخراج عناصره حيز العمل و الإنتاج وتحديد موقفه من العقيدة التوحيدية المباغتة. خلال تلك المرحلة المتقدمة إمكانات الإنسان كانت متواضعة جدا لا تسمح بتقديم التوحيد كهدف وغاية في حد ذاتها لذلك اكتفت تلك الحملات باعتماد هذا العنصر كمؤثرة قوية لمركز عملها الأساسي أي النسيج النفسي و الاكتفاء بدوره التحسيسي من الناحية العقائدية.
بمجيء موسى عليه السلام بدأ التأسيس لمرحلة تعليمية جديدة و حاسمة بالنسبة لمصير الإنسان تتمثل في بناء القاعدة الأساسية للتطور الحضاري التي تمكن ذلك المخلوق من بلوغ أرقى درجات الوعي والنضج. تلخصت رسالة ذلك الرسول في توفير أعظم عناصر الحرية والانعتاق و التفتح على مستوى النفس و التفكير أي بناء التوحيد مصدر حرية الإنسان و مناعته و قدرته على التحكم في مبادرة الوجود.
لقد خلق الإنسان من علق فهو شديد التعلق بالأشياء و الظواهر و الأشخاص التي تستحوذ على أهواءه وميولا ته لتأثر على مواقفه و سلوكه و مجرى حياته. أغلبية الناس يتعلقون بالخوارق التي تخص ميدان العقيدة الأساسية مصدر التوازن الوجودي. يمكن أن يتسبب ذلك في مشاكل ويؤثر سلبا على مجرى الحياة فيفقد الشخص حريته واستقلاليته واكتفاءه الذاتي وقدرته على تقرير مصيره دون تأثير أو تدخل خارج عن إرادته .
سعت التعاليم الدينية إلى توفير الحصانة الضرورية لحماية المصالح العليا للإنسان الأعزل وضمان حريته و استقلاليته و اكتفاءه الذاتي و قدرته على التفتح و اقتحام ميدان التطور و الرقي الحضاري فقررت بناء التوحيد وترسيخه كقاعدة أساسية دونها الخيبة و الفشل باعتباره أعظم عنصر تحرر وتفتح للنفس و التفكير.
يتمثل التوحيد في تعلق الإنسان بذات الله العظيم و التخلص من كل التأثيرات السلبية الأخرى باعتبارها أشياء تافهة وأشخاص لا حول لها أو ظواهر طبيعية وجب التصرف فيها بدل الخضوع لها كانسان مؤهل للتحكم في مبادرة الوجود و إبراز أفضليته المشروعة.
التعلق بذات الله وحده يجعل العلاقة بين المخلوق و خالقه مشروعة تعمل تلقائيا على تحقيق المصالح الكبرى وتوفير كافة ضمانات النجاح لسعي الإنسان ذلك لأن هذه العلاقة روحية غير مادية أو مرئية وتلك إرادة الله و حكمته في جعل تلك العلاقة تتمحور كليا حول أسماءه الحسنى و صفاته العليا مصدر كافة ضمانات الفلاح و النجاح.
« …وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »
الروم 27
أسماء الله الحسنى هي منبع القيم الأخلاقية السامية التي بدونها لا يمكن لأي إنسان أو أي مجموعة بشرية كانت أن تؤمّن نجاح مشاريعها و لذلك جعل التوحيد تعلق الإنسان بربه و علاقته الدائمة و المتينة الوسيلة المثلى لاكتساب تلك القيم السامية و التعلق بها و تطبيقها ضمن مواقفه و سلوكه اليومي.
بالتوحيد يتحرر المؤمن من هيمنة الظواهر والأهواء والأشخاص ويضمن لنفسه و لتفكيره الاستقلالية وحرية تقرير المصير و التصرف حسب ما تمليه القيم السامية التي تربطه بربه الكريم أي العروة الوثقى و حرصا من الله عز وجل على ضمان حرية الإنسان وتمكينه من ممارسة حياته حسب ما تمليه إرادته الذاتية و دون أي مكبلات قرر عدم الكشف عن صورته وشكله يقينا من لدنه أن هذا الأمر لا يخدم مصلحة ذلك المخلوق بل يكبله و يدمره تدميرا.
هكذا نرتقي بتفكيرنا و ندرك عظمة التوحيد و حتمية بناءه و ترسيخه كقاعدة دائمة تضمن للبشرية تقدمها و تحضرها و بلوغها أعلى درجات الرقي والفلاح على الأمدين العاجل و الآجل وندرك خاصة مدى دقة إستراتجية التعاليم الدينية و مدى تطابقها مع مختلف مراحل التطور البشري .
رسالة موسى عليه السلام تشير إلى تحول عظيم في نسق التعاليم الربانية و التغيير الجذري في علاقتها مع الإنسان وتطوير وسائلها و أهدافها بما يتماشى ومصلحة البشرية خلال تلك المرحلة الحاسمة من التاريخ حيث لم يعد التوحيد كما كان سابقا وسيلة تحسيس و مؤثرة قوية مسخرة لتنمية المدارك النفسية بل كهدف أساسي و كقاعدة متينة و دائمة للتطور الحضاري.
نظرا لأهمية عنصر التوحيد بالنسبة لمصير الإنسان على الأمدين العاجل و الآجل فقد رصدت التعاليم الوسائل القادرة على بناء و ترسيخ العقيدة التوحيدية ضمن قوم بني إسرائيل الذي تم إعداده من طرف إبراهيم كإطار بشري مسؤول عن بناء قاعدة التطور و ترسيخها و ضمان استمرارها و نشرها عبر مختلف الأصقاع و الأزمنة كما ورد في الميثاق الذي نص عليه القرآن الكريم.
أما بالنسبة لقضية الاختيار و التفضيل الذي يتبجح بها بعضهم فقد قال فيها القرآن قوله الفصل.
« وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ «
الدخان 32
لا يتصرف المولى إطلاقا عن طريق نزوة أو هوى بل في إطار الحق و العدل أي ما يتفق مع سنن الشرع و المنطق السليم فقد تحتم اختيار اليهود كإطار بشري لرسالة موسى نظرا لما ورثه ذلك القوم عن إبراهيم من تقاليد عقائدية قريبة من التوحيد خلافا لكافة الأقوام الأخرى التي كانت تدين كليا للشرك والتعددية و الوثنية الراسخة بشدة ضمن تقاليدهم.لذلك وقع الاختيار على بني إسرائيل أقدر الأقوام آنذاك على استيعاب التوحيد و التفاعل معه لا لأنهم أخيار كما يتوهمون.
أهمية الهدف جعلت الرسالة تستعين بأعظم ما رصد من وسائل تعليمية و تطبيقية فقد كلم الله رسوله تكليما و وهبه العصا مصدر المعجزات الكبرى والسند القوي لمصداقية خطابه وتلك مرحلة أولى تدخل في إطار إعداد الرسول لرسالته. أما المرحلة الثانية فهي أعظم حيث أوحى الله لرسوله طلبا غريبا تمثل في التعبير الصريح عن رغبة موسى في رؤية الخلاق العظيم بأم عينه.و حدث ما نعلمه.
« …فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا… »
الأعراف 143
ما حدث خلال الميقات جعل موسى يتجاوز درجة الإيمان ليبلغ درجة العلم المدعم بالأدلة المادية و المرئية حيث لم يعد يؤمن بوجود الله فحسب بل أصبح يعلم بالدليل القاطع وجود الله العظيم وتمت عملية الإعداد الحكيم وتدعيم رسول التوحيد باليقين الذي يرفع خطابه إلي أعلى درجات الصدق و الحماس والتأثير المباشر و الفعال على مخاطبيه.
قبل بنو إسرائيل خطاب موسى المدعم بالمؤثرات القوية أي المعجزات الكبرى التي لا تترك مجالا للشك أو التردد و التي تعتمد النسيج النفسي بالدرجة الأولى مركز الإرادة والقرار و المهيمن على كافة المدارك الأخرى و انتشر التوحيد على مستوى القوم و استأنس به الجميع فلم يعد غريبا كما كان و تحقق النصر المبين.
لم تكتف رسالة موسى بذلك الانجاز العظيم بل سعت إلى تدعيمه و ترسيخه وتطهيره من كل شائبة حتى يتسنى لها إدماجه في صلب العادات و التقاليد كجزء لا يتجزأ من الوجدان. تطلّب ترسيخ التوحيد في أوضح معالمه الاستعانة المكثفة بالمعجزات كلما برز خلل أو مشكل أو ما شابه ذلك من الحواجز التي تنال بصفة أو بأخرى من سلامة التوحيد و صفوته.
العقاب الشديد و المتواصل دون هوادة وكذلك الأغلال التي فرضها الله على بني إسرائيل كان لها الدور الأعظم في بناء التوحيد بطريقة ثابتة منيعة تضمن استمراره و صفوته عبر الزمان و المكان فتتوارثه الأجيال كأهم المكتسبات وتعمل على نشره بين الناس و تستعين به كقاعدة ثابتة للرقي و التطور الحضاري.
المرحلة التعليمية الأخيرة تمثلت في إدماج التوحيد ضمن العادات والتقاليد و السلوك اليومي عن طريق الظواهر النفسية الرائدة التي تجعل المعتقد التوحيدي جزءا من الكيان و الوجدان وهي الطقوس التعبدية الكثيفة مصدر التعلق و التكيف و التطبع العميق بالعقيدة التي ترسخ ضمن السرائر أولا لتقتحم المدارك الفكرية في مرحلتها الثانية عن طريق الممارسة المنتظمة و المتواصلة لتلك الطقوس التعبدية الحاسمة.
هذا أهم ما و جب إدراكه عن رسالة موسى عليه السلام من طرف المسلمين حتى يتمكنوا من مسايرة التطور العظيم و الاستراتيجي لمنهجية التعاليم وما سخرته من وسائل لحماية مصالح الأمة و الإنسانية عامة في إطار مرحلتها التعليمية الثانية التي افتتحها رسول التوحيد.
رسالة المسيح
عندما ارتكز التوحيد و قدر الإنسان على استيعابه و التعامل معه والتعلق به كعقيدة أساسية ثم نشره بين الأقوام المجاورة تحقق للإنسانية بناء قاعدة متينة للتطور و امتلاك أهم عناصر التقدم و الرقي الحضاري و المتمثل أولا في التخلص النهائي من هيمنة المعتقدات الشركية المتسلطة على النفس والتفكير والمثبطة لإرادة الانعتاق و التفتح و الخلق و الإبداع و ثانيا في امتلاك الحرية والاستقلالية في تقرير المصير و الاكتفاء الذاتي .
لم يدرك بنو إسرائيل ذلك البعد الحضاري الهائل للتوحيد وأهدافه العظيمة نظرا لتواضع مستوى النضج آنذاك وهيمنة الطريقة الدغمائية والتقاليد الفكرية المتواضعة جدا التي تمحورت كليا حول الخوف الشديد من عقاب الله واكتفت بالتطبيق الحرفي للنواهي و الأوامر و التعامل الآلي بالطقوس الدينية المكتوبة أي بالوسائل دون الاهتداء للأهداف التي يرمي التوحيد إلى تحقيقها . ذلك هو أقصى ما يمكن أن يدركه التفكير خلال تلك المرحلة التاريخية لأن المشروع الحضاري الضخم لا يزال في بداية عهده مما جعل التعاليم الدينية تعتمد التدرج المنطقي في تعاملها مع الإنسان حسب إمكاناته بكل رفق و موضوعية.
التحول الايجابي الذي طرأ على موقف الإنسان من خلال التوحيد دفع التعاليم الدينية إلى مواصلة البناء وتقديم المرحلة التعليمية الثانية المدعمة للتوحيد و المتمثلة في رسالة المسيح ابن مريم ورفع مستوى النضج ودفع البشرية إلى المزيد من النمو و المعرفة.
تتمثل رسالة المسيح في بناء علم الإنسان و علم النفس و تفكيك التركيبة الثلاثية التي يتكون منها و طبيعة العلاقات التي تربط بينها كي يتسنى لذلك المخلوق إدراك كنهه و مقوماته ومعرفة الأدوار الريادية التي تختص بها الظواهر النفسية ومدى تأثيرها على مواقفه وسلوكه اليومي أي دور الأهواء و الميول التي يفرزها النسيج النفسي على الإرادة و مركز القرار في تحديد الموقف و السلوك.
النفس هي المقرر الأول لمصير الإنسان فهي تستحوذ علي الإرادة عن طريق الأهواء و الميول التي تفرزها كي يتسنى لها توجيه الفرد نحو المسار الذي تريده. رغم أهميته يكتفي العقل بالدور الذي تقره النفس من خلال الإرادة و رغباتها أي حسب ما تمليه من أوامر تحدد مسبقا الغرض الذي تريد تحقيقه.
الغرور و التسلط لا يخدم مصلحه الإنسان المطالب بتركيز اهتماماته بالدرجة الأولى حول النفس التي تتحكم في العقل و توجهه حيث تشاء وتستعين به كأداة تنفيذ لأغراضها مما يجعل دوره حيادي.
رسالة المسيح تمكن الإنسان من اقتحام هذا الميدان المعرفي المعقد و لو بصفة جزئية تجعله على الأقل يعير النفس و ميولها و أهواءها ما تستحقه من أهمية و ما تقوم به المشاعر الطيبة من تأثير ايجابي على الموقف و السلوك مما يستوجب ا لمقاومة الضارية للرذائل واكتساب الفضائل التي فيها نجاته و سلامته.
الرسالة الثانية تتطلب إعدادا حكيما للمسيح و دعمه بقدرة التصرف في ذلك الميدان المعرفي المعقد و تفكيك مقومات النفس البشرية و طريقة ترويضها و صقل مواهبها و استغلالها لما فيه صلاح الفرد و فلاحه. السيطرة التامة على علم النفس المجرد و اللامرئي و الذي ينتمي إلى الميدان الروحي الصعب الإدراك هي خاصية رسول المسيحية .
« إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »
آل عمران 59
اعتمادا على يقيننا الراسخ بأن الله عز وجل لا يفعل شيأ إلا بالحق يمكننا التسليم القطعي بأن خلق المسيح بهذه الطريقة الرائدة قد فرضته المصلحة العليا و خصوصية الدور المناط بعهدة ذالك الرسول.
التركيبة الجسدية و الفكرية و النفسية الفريدة من نوعها تدعم عيسى عليه السلام بالقدرات الضرورية التي تمكنه من القيام بدور المخبر المتكامل الذي يتلقّى المعطيات العلمية في شموليتها عن طريق الوحي فيتثبت من قيمتها و أهميتها و أبعادها ثم دورها و طريقة استغلالها كي يتسنى له تبليغها بأسلوب سلس و مبسط يتقبّله القوم بيسر و بدون عناء فيسعى تلقائيا إلى تطبيقه بما يعود عليه بالنفع و ذلك هو ما تحقق فعلا.مستلزمات الرسالة هي التي فرضت خلق المسيح عليه السلام بتلك الطريقة الفريدة .
قدّم المسيح معلومات جديدة تخص ميدان النفس و ما تتطلبه من دعم وقدرات تضمن تحررها و ايجابية سعيها. ميدان معرفي غير معهود يتمحور حول الفضائل التي وجب استقطابها و التصرف من خلالها وكذلك الرذائل عدوة الإنسان المثبطة لإرادة الخير و عزيمة الصلاح و التي وجب مقاومتها و التخلص منها. كان خطابه سهلا غير منيع تقبله القوم بشغف فانتشرت مشاعر الخير والمحبة و الرأفة والعفو و الغفران و التسامح و التآزر و الشفقة الخ.. لتوشح أغوار النفس بحلل جديدة و تطور السلوك بما فيه الخير و السلامة.
رسالة المسيح هي الدعامة المباشرة للتوحيد و المرحلة المكملة له و الأساسية لدفع الإنسانية لمزيد التقدم و التحرر والتفتح في إطار المشروع الحضاري العظيم الذي رصدته التعاليم الدينية لحماية الإنسان و توفير كل ما يلزمه لتحيق رفعته و عزته و فلاحه و نجاحه على الأمدين القريب و البعيد.لم يكن بوسع المسيح تقديم كافة الجزئيات التي تخص علم النفس بما يتخللها من قواعد وقوانين معقدة صعبة المنال لذلك فقد اكتفى بدور التحسيس نظرا لتواضع مستوى النضج و الإدراك في ذلك العصر. لكن الرصيد المسيحي رغم تواضعه من الناحية العلمية قدر علي القيام بدوره أحسن قيام و أثر بعمق في الحضارة اليونانية و اللاتينية التي دعمها بتلك المجموعة الهائلة من القيم الأخلاقية و الحضارية السامية.
بالنسبة لمنهجية التعاليم الدينية رسالة المسيح تمثل السند المباشر و الدعامة الكبرى للتوحيد العنصر القاعدي لتحرير الإنسان من التبعية و المثبطات العقائدية التي تحول دون انعتاقة و انفتاح ملكاته النفسية والفكرية . لا بد من امتلاك و ممارسة القيم الأخلاقية السامية التي جاء بها عيسى لاستكمال و تحقيق مشروع التحرر و الانعتاق و الانفتاح. الرسالتان مترابطتان ترابطا عضويا حيث لا يمكن إطلاقا الفصل بينهما و الدليل على ذلك التواصل و التكامل هو الإطار البشري المقصود بهذه الرسالة أي اليهود أهل التوحيد دون غيرهم نظرا لما يتمتعون به من إمكانات وقدرات و تجارب توحيدية اكتسبوها عن طريق رسالة موسى تمكنهم من إدراك المسيحية أفضل إدراك وتحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها بحظوظ أوفر و من ثمة مواصلة بناء المشروع الحضاري العظيم وتعبيد طريق النجاة.
أخل اليهود بما عاهدوا الله عليه و رفضوا رسالة المسيح جملة و تفصيلا فحدثت الطامة الكبرى واختل التواصل في نسق التعاليم الدينية و انقطعت صلة الترابط و التكامل بين أجزاء المشروع البنيوي وحل مكانها الانقسام و التفرقة والتصادم و العداء و استحوذ الجهل على القلوب و العقول وخسرت الإنسانية سندها العظيم وتاهت في دهاليز التأويلات العشوائية الساذجة ضمن ديانات غريبة أنتجها الإنسان الذي أخضعها لمصالحه الاقتصادية والاجتماعية و السياسية التافهة الوضيعة.
الأقوام التي تقبلت المسيحية كانت تخضع لتقاليد شركية لا علاقة لها بالتوحيد فقد أثرت سلبا على محتوي الرسالة حيث سقطت في خلفيات الثقافة الشركية بإدماجها عنصر التثليث في صلب المعتقد التوحيدي أساسا.ذلك الفقر العقائدي حال دون إدراك الخصائص العلمية لرسالة عيسى عليه السلام مما جعلهم يسلطون كل الاهتمام حول شخصية المسيح التي انبهروا بها إلى حد التقديس و التأليه عوض الانتباه إلى محتوى رسالته الداعية إلى الشروع في بناء علم النفس وقواعد المعرفة التي تخص مكونات الإنسان و الطرق الكفيلة باستغلال مواهبه و قدراته.
ذلك الفشل الذر يع في تحديد المكانة العلمية لرسالة عيسى و وضعها الشرعي ضمن منهجية التعاليم الدينية انعكس مباشرة على تعاليم الكنيسة المتمثلة في تلك التأليفية الفلسفية الفقيرة جدا لسان توماس و سان أوغستان والتي لا صلة لها بأسس الرسالة المسيحية الهائلة و بالطبع حدث ما حدث من فوضى و تخلف تسببا في سقوط البشرية في شرك المادية المهيمنة حاليا على الأرض.
الإسلام
واصلت التعاليم الدينية بناء مشروعها ضمن منهجيتها الحكيمة دون اعتبار للأخطاء التي ارتكبت من طرف الإنسان وقدمت آخر وأهم دفعة تعليمية توجت بها برنامجها التنموي العظيم و هي الرسالة المحمدية.
في بداية القرن السابع للميلاد تغيرت الأحوال وبلغت البشرية درجة من الوعي تنبئ بتحول كبير. برزت بشائر ذلك التطور في نقاط عديدة من محيط البحر الأبيض المتوسط حيث تأكد وجود حركات فكرية ثقافية أ حدثت تغييرا جذريا في موقف الإنسان تتمثل في إرادة التحرر من القوالب الفكرية القديمة و تسلطها على العقل.تطورت المدارك لدى الثلة المثقفة التي أقلعت عن موقف الاستهلاك الآلي و الامشروط للقوالب الفكرية الكهنوتية و مارست حقها في النقد البناء مطالبة باعتماد قواعد التحليل المنطقي مصدر التفاهم و الوئام فتحتم توفير الحماية المناسبة لتك الحركة الفكرية الواعدة و جاء الإسلام السند العظيم.
تحمل محمد صلى الله عليه و سلم أزر أعظم الرسالات و أشدها وطأ و أبلغها محتوى فخاطب الناس بالأسلوب المنطقي الحكيم مقدما كل الضمانات التي تساعدهم عل خوض ميدان العقيدة التوحيدية بأوفر الحظوظ جاعلا من العقل مخاطبه الأول و الأخير. ارتكز البناء جملة و تفصيلا على الحوار مما استوجب التخلي النهائي على استعمال المعجزة التي لم تعد تناسب العصر و لأنها تتعارض كليا و أهداف الإسلام في وضع تعاليم متطورة إلى أبعد مستوى يمكن أن يدركه عقل واع تمام الوعي.
الإسلام هو تاج الرسالات الدينية وهو آخر ما نزل من التعاليم التي تخص المصالح الدنيوية و الأخروية للإنسان لذا فقد التزم بوضع موسوعة معرفية كاملة الأوصاف تضمن لذلك المخلوق ما يمكن أن يحتاج إليه لمجابهة مشروع وجوده على الأرض بأوفر حظوظ نجاح ممكنة و دون أي خطاء محتمل و ذلك حق مشروع تقره السنن و الشرائع الكونية.
هدف الرسالة المحمدية هو أساسا بناء مرجع علمي منطقي يعتمد على العقل مخاطبه الشرعي له أبعاد كونية تعمل على حماية الإنسانية و تقويم مسارها و إصلاح سعيها عبر الزمان و المكان كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
خطر المعجزة على رسالة محمد صلى الله عليه و سلم
كل الرسالات التي سبقت الإسلام استعانت بالمعجزة لترسيخ تعاليمها الروحية الصعبة القبول و الإدراك نظرا لمحدودية وسائل الفهم وتدني مستوى النضج لدى عامة الناس . المعجزة هي المطرقة التي تفرض على التفكير و الوجدان قبول محتوى الرسالة و التسليم به دون عناء و دون أي شك أو تردد وهي قادرة على تحويل الإيمان إلى يقين.ولكن رغم عظمة تأثيرها فان مفعولها يضل محدودا في الزمان و المكان لا يتجاوز الجيلين أو الثلاثة مما يتطلب إعادة الكرة بصفة شبه منتظمة و هو ما دأبت عليه التعاليم قبل الرسالة المحمدية.وبما أن الإسلام هو آخر ما نزل من التعاليم فقد تحتم التخلي النهائي عن استعمال طريقة المعجزة و تعويضها بطريقة دائمة التأثير و الفاعلية تناسب المصالح الكبرى و تضمن استمراريتا عبر كل الأزمنة و العصور المتبقية بتنمية المدارك الفكرية و صقل مواهبها و اعتمادها كطرف أساسي في عملية النمو الثقافي و الحضاري و العلمي السند الأول لمصير الإنسان . لابد من تحقيق تحول هائل وجعل ذلك المخلوق يعتمد كليا على مواهبه الذاتية أي ملكاته النفسية و الفكرية في تعامله مع الخبر الديني.
تطوير المدارك الفكرية
أعظم مهمة يقوم بها القرآن هي صقل مواهب الإنسان من الناحية الفكرية و النفسية و استدراجه بلطف و حكمة حتى ينمي قدراته و يرتقي بتفكيره نحو المستوى المطلوب فيتمكن من متابعة الخطاب الديني الذي فيه نجاته و فلاحه.
التمويل الإسلامي متطور جدا لا يتلاءم مع التفكير الضعيف و المتدني و العاجز عن مسايرة حركته التفوقية السريعة لذا فقد سعى هذا الكتاب الكريم لرفع مستوى المدارك الفكرية نحو المستوى المطلوب حتى يتحقق الحوار المنطقي السليم .
لقد تجاوز الخطاب الإسلامي كل النظريات البشرية التي تحدد المهمة الأساسية للعقل و مكانته في سلم تقديراتها. يعترف القرآن بعظمة و ريادية المدارك الفكرية و أولويتها في الفهم و الاستنتاج لكن دون إسنادها مهمة تقرير المصير التي تعود بالدرجة الأولى إلى إرادة الفرد مصدر القرار و التقرير.
يضل العقل بالنسبة للقرآن أداة انجاز عظيمة الدور تلتزم بطبعها بالحياد التام مسخرة لخدمة الإرادة التي تستغل ما يقدمه لها العقل من معطيات لتحديد موقفها و قرارها.وهدا العقل لا يمكن أن يعمل و ينجز إلا من خلال ما يتلقاه من أوامر صادرة عن الإرادة التي تأمره مثلا باكتشاف دواء يعالج مرضا أو بانجاز قذيفة ندمر بها منزل جارنا فيتحرك و يسعى لانجاز ما طلب منه دون الاهتمام بما تؤول إليه انجازاته مما يدل على حياده التام وتبقى المبادرة بيد الإرادة وحدها دون غيرها. هذا الأمر لا يخص العقل فحسب بل الجسد أيضا فاليد مثلا تعطى إذا أمرت بالعطاء و تسرق إذا أمرت بالسرقة فهي تنفذ الأمر دون الاهتمام بالنتيجة التي تخص الإرادة صاحبة القرار و المبادرة.
الإرادة المقرر الأساسي لمصير الإنسان تخضع بدورها لتأثير مجموعة من الظواهر النفسية الحاسمة التي تترجمها الأهواء و الميول والتي تنتمي كليا إلى النسيج النفسي المتكون من عناصر روحية غيبية صعبة الإدراك و الترويض.
هذه الأهواء و الميول تهيمن مباشرة على الإرادة و تحدد طبيعة قرارها بالإيجاب إذا كانت الأهواء سليمة طيبة أو بالسلب إذا كانت أهواء المعني بالأمر خبيثة رذيلة ومن ثمة ندرك واقع الإنسان. إذا صلحت أهواءه صلحت إرادته و صلح قراره و سعيه و صلح مصيره وإذا فسدت تلك الأهواء فسد كل شيء.هكذا يضل مصير الفرد مرتبطا جذريا بالنفس و طبيعة مكوناتها و التي تستأثر بالأولوية المطلقة بالنسبة لدراساتنا و اهتماماتنا و مشروع عملنا.
النفس هي مركز كل الاهتمامات لدى التعاليم الدينية وهي قاعدة العمل الأولى مصدر قوة الإنسان و رفعته أو مكمن ضعفه و مذلته بها يرتقي إلى أعلى درجات الكرامة أو ينحدر إلى أسفل السافلين مهما كانت درجة علمه و ذكاءه و فطنته لأن العلم و الفطنة والذكاء توظفها الإرادة حيث تشتهي و تريد حسب أهواءها و ميولها.
النفس هي المحور الأساسي لكل الاهتمامات. إذا تمكنا من فهم مقوماتها و خاصياتها وطبيعة عملها وتأثيرها الهائل و دورها الريادي بالنسبة لتقرير المصير توفرت لدينا الوسائل الضرورية لمواجهتها و ترويضها واستغلالها أفضل استغلال والاعتماد عليها كقاعدة عمل و كمنطلق ثابت لانجاز ما نطمح إليه من تطور و رقي حضاري و نجاح و فلاح.
من هنا يتحتم علينا مراجعة موقفنا من الإنتاج الحضاري الغربي و نظرياته الفلسفية الخطيرة. لقد تأثرت الثقافة الغربية بديكارت و موضوعا نية أغصت كونت شديد التأثر فآمنت و أيقنت بانتصاب العقل في قمة هرم الاهتمامات و اعتماده كمرجع أوحد للاختيارات التي تهم تطور الإنسان ونجاح مشاريعه.ذلك الموقف يشير بوضوح إلى نية التحايل على المجتمع و تقييده بنظريات واهية اعتمدت الخلط بين مختلف الميادين العلمية وإسناد العقل و بصيرة المنطق سلطة مطلقة. القرآن يفند ذلك الادعاء الخطير لأن العقل و بصيرة المنطق حيادية لا يمكنها ممارسة دورها إلا في إطار العلوم الصحيحة حيث يكون استنتاجها مشروعا مدعما بالأدلة و البراهين ثم أن العقل و بصيرة المنطق تضل رهينة إرادة الإنسان تخضع آليا لاختيارات النفس رغم صلابة استنتاجاتها ما دام العقل و بصيرة المنطق ملتزمة بالحفاظ على حيادها مصدر شرعيتها و في كل الحالات تبقى مبادرة الاختيار بيد الإرادة التي مقرها النفس لا العقل الذي يكتفي بدور ثانوي تحدده النفس ذاتها.
لا يسمح القرآن الكريم بهذه المضاربات الخطيرة فهو يعتمد العقل و المدارك الفكرية كأداة بحث و فهم واستنتاج أساسية تنير السبيل و توفر للنفس حقيقة الوضع دون أن يتدخل في اتخاذ القرار و رغم أهمية دوره يحتل ذلك العقل مكانة ثانوية عندما يتعلق الأمر بالعقيدة الأساسية.
تمويلات الرسالة المحمدية
لا يمكن لأي إنسان أن يقدر ضخامة التمويل المعرفي الذي و ضعته الرسالة الإسلامية على ذمة البشرية جمعاء.ذلك الرصيد الضخم يتجاوز كل المقدرات ويتجاوز أي مستوي علمي أو أي درجة وعي يحققها الإنسان عبر الزمان حتى يساعده على بناء حياته أفضل بناء موفرا كل ضمانات النجاح لمشروع وجوده إذا ما قدر على احتواء ذلك التمويل وتطبيقه بحكمة و ثبات و التخلي على غروره و كبرياءه الزائف.
لم يكن في مقدور السلف الإحاطة بالخصوصيات العلمية لذلك التمويل نظرا لتواضع مستوى علمهم حيث ضلت درجة النضج بسيطة للغاية غير قادرة على موازاة نسق التطور القرآني الهائل. تواضع مستوى التفكير تسبب في الانهيار المبكر للحضارة . لا غرابة إذا من حدوث ذلك الانهيار خلال الفترة المتقدمة من تاريخنا لكن الغريب أن يتواصل الانهيار و التخلف في عصرنا هذا رغم ما تحقق لنا من تطور فكري و ما بلغته الثلة المثقفة من وعي.
العقيدة المادية
من الضروري جدا تناول قضية الاختيار المادي بالدرس و التمحيص ووضعه على مسبر التقييم حتى يتمكن العقل من تحديد موقف صارم يساعده على تقصي الحقائق بأوفر الحظوظ وأقل العقبات.
العقيدة المادية تعتبر الحياة الدنيا هدف وجود الإنسان و نهاية في حد ذاتها تجعله يعيش ليأكل و يتمتع و ينعم بما توفره هذه الحياة من رغد ولذة ثم يموت و يندثر نهائيا و بدون رجعة و كأن شيأ لم يكن.
المتعة و اللذة هي مؤثرات طبيعية غريزية قوية الفاعلية و ضعها الخالق العظيم ضمن التركيبة العامة للإنسان لضمان توازنه المعيشي على الأرض وجعله يسعى و يجتهد تلقائيا و عن طريق مبادرته الذاتية إلى تحقيق ذلك التوازن الذي يجعل حياته سليمة طبيعية لا تتخللها مشاكل.
شهوة الأكل
متعة الطعام و لذته هي المؤثرة القوية الفاعلة التي تجعل الفرد يسعى مجتهدا لتناول الأكل و تنويع مصادره كي يتحقق توازنه الجسماني ويجعل حياته تسير سيرها الطبيعي السليم و بذلك يبرز الأكل في إطاره المنطقي كوسيلة عمل مسخرة لتحقيق هدفها الأساسي وهو التوازن الجسماني الضروري لممارسة الحياة . لولا الشعور بالمتعة و اللذة لما كلف الإنسان نفسه مشقة طلب الأكل و تنويع مصادره فيتسبب حتما في اختلال توازنه.
شهوة النكاح
متعة النكاح و ما يحيط بها من بهرج حب و عشق و هيام هي المؤثرات القوية الضاربة التي تجعل الفرد يسعى تلقائيا و عن مبادرة ذاتية ورغبة جامحة لتحقيق التزاوج مع الجنس المقابل لتحقيق الهدف الأساسي المتمثل في اللقاح و الإنجاب و ضمان استمرار النشء و عمارة الأرض. لولا تلك الشهوة الغريزية لوقف الوجود البشري عند آدم و حواء.
متعة التعلم
متعة التعلم والبحث و الاكتشاف هي مؤثرات غريزية تولد الرغبة في اقتحام ميدان التطور و تنمية المدارك الفكرية والحسية و الارتقاء بالنفس الى أعلى درجات التحضر التي تضمن المسار الطبيعي لحياة الإنسان على الأرض.
متعة الترفيه
الرغبة التي يشعر بها الفرد في الترفيه عن النفس هي بدورها المؤثرة الغريزية و الطبيعية التي تبني التوازن الوجداني و النفسي عن طريق اللعب و اللهو و الضحك والسفر و السياحة المروحة على النسيج النفسي و الفكري. بذلك يتحقق توازن الإنسان و استعداده الدائم لمواجهة متطلبات الحياة في أحسن الظروف.
المتعة و الرغبة و الشهوة تعني التبعية و عدم الاكتفاء الذاتي وانعدام الاستقلالية و التحرر وخضوع الإنسان إلي الحاجة التي تتحقق على حساب الفرد و حريته وانعتا قه أي على حساب سعادته الحقيقية. لو قدر هذا المخلوق على العيش دون حاجة إلى الطعام مثلا ودون مشقة السعي لتحقيقه و تنويع مصادره لكان بدون شك أكثر تحررا و استقلالية أي أكثر سعادة و هناء.
غرائز المتعة و الرغبة والشهوات وضعها خالق الكون في الإنسان كمؤثرات قوية تجعله ينفذ تلقائيا وآليا
إرادة الله في ضمان التوازن الوجودي التام و الضروري لممارسة الحياة في أفضل الظروف و أيسرها وبذلك تتحقق إرادة الله في استكمال متطلبات الحياة الطبيعية لهذا المخلوق.
كل تلك المؤثرات الغريزية هي وسائل عمل و استغلال و تنفيذ مسخرة لتحقيق أهداف أساسية تمكن الفرد من ممارسة حياته الدنيا في أحسن الأحوال و في توازن تام. فهي إذا وسائل الحياة و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبرها هدف الحياة.
من هنا تبرز القيمة الحقيقية للاختيار المادي الاستهلاكي و مدي سذاجته واستهتاره وعبثه بالمقومات الشرعية للإنسان ومن هنا ندرك خطورة أ وضاع البشرية و ما سوف ينتج عنها قريبا من مآسي و من هنا أيضا ينطلق السؤال الرهيب :ما هو إذا هدف وجود الإنسان على الأرض ؟