لقد نفذ صبرنا و لم نعد قادرين على تحمّل هذه المأساة التي انحدرت بنا إلى أذل مستوي يبتلى به قوم من الأقوام مذكرين كل فرد في هذه الأمة الضحية و خاصة شبابها و ضميرها الحي و قاعدة حركتها و تحررها ونهضتها و رفعتها إلى التمسك بعرى الإسلام الصحيح إسلام الحضارة والرقي إسلام الحرية و التفتح و الانعتاق منبع القيم الأخلاقية السامية مصدر الرحمة والمحبة و التآخي سبيل القوة و الرفعة و المناعة و العزة.
القراءة الواردة ضمن هذا الخطاب تضع الإسلام في إطاره العلمي و المنطقي والشرعي كأعظم مشروع حضاري و ضعه الله على ذمة أمتنا التي تضل دائما و رغم ضخامة المصائب التي تعرضت لها طيلة قرون و أحقاب خير أمة أخرجت للناس قادرة و زيادة علي بناء و تشييد أرفع نمط حضاري تشهده البشرية في تاريخها و هو النمط الحضاري الذي يمكن أن تشرع في تأسيسه الأجيال المعاصرة إذا تحركت.
تتعهد هذه القراءة بتذليل كل الصعوبات و التفكيك العلمي و المنطقي لرموز المعرفة ووضع العلاقة السليمة التي تربط الوسائل العلمية بما تمثله من قواعد و قوانين عملية تطبيقية كونية و الأهداف التي تضمن حسابيا انجاز أرفع مشروع حضاري و أعلى مراتب النجاح في الدنيا و الفلاح في الآخرة.
الفترة الزمنية الحالية حاسمة تفرض علينا القيام بمسؤولياتنا التاريخية والمتعددة الأبعاد و هي :
1 ا لتخلي عن تقاليد فكرية عقائدية واهية ومختلة متسلطة و الأخذ بناصية العلم في تعاملنا مع النص القرآني قصد استخراج مشروع الحضارة حيز العمل و التطبيق لأول مرة في تاريخنا.
2 المبادرة بوضع الأسس الصحيحة و الشروع في بناء الحضارة الإسلامية الشرعية التي لم يقع انجازها إلى يومنا هذا رغم ما كنا نتوهم وتمكين أمتنا من تحقيق آمالها وحقها في التطور و الرقي.
3 إعانة الإنسانية على تخطي أوضاعها المتردية حاليا وتجاوز أزماتها و تعديل مسارها بما يضمن سلامتها وتوازنها المعيشي لا عن طريق التسلط و العنف و التطرف و إنما عن طريق السلوك المثالي و قاعدته الشرعية الأخلاق السامية منبع الثقة و التأثير الايجابي في النفس.
4 العمل على تطوير المسار الحضاري من مفهومه النفعي و المادي المعرض للاختلال و الزوال و الفشل عن طريق النسبية و تعددية المكيال كما هو الحال بالنسبة للحضارة الغربية و ما آلت إليه من مشاكل برصد و تدعيم القيم الأخلاقية الكونية بصفتها الإطار الأوحد لأي مشروع حضاري وبصفتها القوانين العلمية العملية الكونية المختصة باستغلال ميدان الحياة و حركة الوجود من ألفه إلى ياءه أمثل استغلال و الضمان الأوحد لنجاح هذا المشروع.
عندما يقتحم التفكير ميدان البحث العلمي فلا بد أن يلتزم بمجموعة من القواعد و المبادئ التي تضمن لسعيه أقصى درجات النجاح منها خاصة الصدق والأمانة و الموضوعية والمنطق السليم بالإضافة إلى الحكمة التي تعتبر الإطار الشرعي للحركة الفكرية و التي تحمي العقل من أي نوع من التنازل خاصة عندما يتعلق الأمر بميدان مصيري كالدين مثلا.
لا يمكن وضع الدّين ضمن المصنفات المعهودة فهو علم بالمعنى الاشتقاقي لكنه ينفرد من حيث المحتوى والمصدر مما يستوجب الحيطة و اليقظة التامة فهو بالنسبة للمسلمين الوصفة العلمية الدقيقة التي تخص ميدان الوجود من حيث المعنى و الوسيلة والهدف.الله عز و جل هو الذي وضع ذلك التمويل المعرفي بدقة و بضبط حسابي لا يمكن مطلقا أن يحتمل أي نوع من الأخطاء. الحكمة هي إطار التفكير و ضمان سلامته و نجاح سعيه وهي التي تجعلنا نقر بواقعنا و نعالج إفراط طموحنا ونلتزم بقواعد المنطق السليم و نعتبر من تجاربنا مهما قست و نتمسك بعرى ديننا التي فيها فلاحنا و نجاح أمرنا.
هذه الحكمة تدل على أن أمتنا متخلفة ضعيفة و أن القاعدة الشعبية, نظرا لما هي عليه من وهن ,لا تقدر على تحمل أعباء النهضة و التطور الحضاري الذي نطمح إليه مما يحتم الشروع المباشر و الحازم في إعادة بنائها وهيكلتها بقوة و ثبات.من دواعي الحكمة الاقتناع الصلب بأن مشروع البناء و التشييد يبدأ بالقاعدة أي بالفرد المسلم الركيزة الأساسية لمشروع التقدم و التطور بتدعيم وعيه و صقل مواهبه و دعم قناعاته و شحذ عزيمته و تطوير طموحه ورفع مستوى مصالحه الذاتية بما يناسب إرادته في العمل و الانجاز طبقا لمسؤوليته الفردية عقدة الحل و الربط . الوسائل العلمية القادرة بمفردها على هذا النوع من التحول وذلك التغيير الهائل الذي يطرأ على مواقف الفرد و سلوكه تحققها المعادلة البنيوية الإسلامية الحاسمة شريطة أن يستوعبها المعني بالأمر في إطارها الشرعي لا كما هي عليه اليوم من سذاجة و فوضى.إذا اقتنع المسلم بأن غايته في هذه الدنيا هي اكتساب الأخلاق مصدر نجاحه وإذا ارتكزت تلك الأخلاق في قلب المؤمن وفي وجدانه وعلى مستوى موقفه و سلوكه انطلقت الأمة بقوة و صلابة و بنت مجدها و عزتها .
النظام الديمقراطي يرتكز علي التطبيق الحرفي و السليم لمجموعة من القيم الأخلاقية مثل الحرية و العدالة و المساواة و احترام الحقوق واستقلالية القضاء و تدعيم المؤسسات الدستورية و غيرها من القيم التي وجب الالتزام بل و التقيّد بها من طرف الجميع.هذا الأمر يتطلب مستوى مدني رفيع و درجة من الوعي لا بأس بها و قناعة متينة بحتمية التطبيق الحرفي لتلك القيم التي تخدم بالدرجة الأولى المصلحة العليا للمعني بالأمر ذاته والذي يضل متمسكا بموقفه ما دامت مصالحه قائمة مما يعرض القيم الأخلاقية إلى النفعية أي النسبية و تعددية المكيال.
المحيط الجغرافي و السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و العقائدي لدى المسلمين يختلف كثيرا وهو لا يوفر للإنسان المسلم التوازن الوجودي المطلوب لتحقيق تحول بتلك الأهمية وذلك لا يعني أنّ المسلم أقل قيمة من سواه لأن الاختلاف لا يخصّ القيمة و إنما التركيبة الفكرية و النفسية و الوجدانية التي تختلف حسب اختلاف التراث.تركيبة المسلم صعبة متشعبة لا تمكنه من قبول المشروع الديمقراطي بسهولة ولا الاقتناع بقيمه كمصدر أساسي لمصالحه مما يجعل مبادرة الإصلاح مضنية و نتائجها غير مضمونة.
العنصر الوحيد الذي بقي محافظا على مصداقيته وتأثيره القوي وقدرته على تحريك سواكن المسلم و دعم إرادته و حماسه هو الإسلام و الإسلام وحده شئنا أم أبينا. هذا الأمر مفروض لا جدال فيه لذا و عوض أن نتوه في دهاليز التجارب الفاشلة لماذا لا نغتم هذه الفرصة العظيمة الفائدة وهذه الوسيلة البنيوية القوية و التي لا تتوفر لأي أمة أخرى لتحقيق ما نصبو إليه بحكمة وثبات.
النظام الديمقراطي يلتزم بتطبيق مجموعة محدودة من القيم الأخلاقية بينما نجد أن الإسلام يلتزم بجميع القيم الأخلاقية السامية بدون استثناء نظرا للترابط الذي يجمع بينها ليؤمّن شرعيتها وحمايتها من أي تحدي لأن كل قيمة هي سند لبقية القيم . من ناحية أخرى و هي الأهم فأن المؤثرة القاعدية في النظام المادي هي المصلحة المادية المباشرة التي يمكن أن يصيبها الفتور و الشلل و الاندثار التام بينما المؤثرة الأساسية في الإسلام هي العقيدة التي تتمتع بقدرة هائلة في تحريك وسائل الانجاز و البناء وأن المصالح ليست فقط مباشر دنيوية بل هي بالخصوص أخروية آجلة مما يجعل حرص المؤمن على العمل و الانجاز و النجاح أشد بكثير من سواه. وهنا يبرز الفرق الشاسع بين الإسلام والأنماط الديمقراطية و من هنا تبرز حتمية مراجعة التعاليم الإسلامية وتحريرها ووضعها في إطارها العلمي كأعظم وسيلة بناء و تطور لأمتنا.