مكانة العقل في الإسلام

قرار غلق باب الاجتهاد هو التحدي الصريح لإحدى أعظم ركائز الإسلام أي العقل باعتباره الطرف الأول في الحوار والمخاطب الشرعي لمشروع البناء العقائدي. اعتماد العقل فرضته المصالح العليا للإنسان و قد تبين ذلك في ما اتخذه الإسلام من قرارات حاسمة مثل إنهاء العمل بالمعجزة نظرا لمحدودية مفعولها وعدم قدرتها على حماية العقيدة الأساسية عبر ما تبقّى من الزمن ثم القرار الرباني بختم الرسالات التعليمية وتقديم القرآن مصدر الحق و الطمأنينة و الشرعية. تقديم القرآن كمرجع أساسي يعني وضع حد نهائي لتدخل الإنسان في شؤون الدين عن طريق التحريف و التحوير و الإضافة و التسلط والكذب.

هذا الكتاب هو مصدر المعرفة الشاملة و هو مدعم بكل ضمانات الحماية والحفظ و الاستمرار و هو يخاطب العقل بالدرجة الأولى ويفرض على هذا الشريك صقل مواهبه و تدعيم قدراته إلى أقصى حدّ ممكن واكتساب اعلي درجات العلم وأرقي مستويات النضج حتى يتمكن من الفوز بكل ما يقدمه من تعاليم.

ما ورد في كتاب الله من تأكيدات تدعم يقيننا بأن العقل هو المخاطب الأول و الأخير و الطرف الشرعي في الحوار و الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهما حدث. التعاليم القرآنية تخاطب الإنسان الذي يعتمد بالدرجة الأولى على العقل وسيلة الفهم و الإدراك و التحليل و الاستنتاج.ليس من طبيعة الله عز و جل أن يحمل مخلوقاته ما لا يتحملون او أن يبتليهم بتعاليم تتجاوز قدراتهم الذهنية. لو علمنا أن بصيرة المنطق هي أفضل ما يرتكز عليه التفكير لتحديد مواقفه وبناء استنتاجاته لأدركنا أن كل ما ورد في القرآن من تعاليم مهما بلغت صعوبتها هي منطقية عقلانية إلى ابعد حدود المنطق و العقلانية مهيأة للتعامل والتحاور مع العقل الشريك الشرعي الذي بيده الحل و الربط . لا يمكن أن يغيب عن أذهاننا و لو برهة واحدة أن الله هو الحق و هو العدل لا يمكن أن يبتلي الإنسان بتعاليم تفوق قدرته علي الفهم و الإدراك و إذا ما حدث ارتباك و شك فان ذلك يعود حتما إلي خطا يرتكبه العقل في أسلوب تعامله مع الرصيد المعرفي القرآني.لقد أدركنا من خلال الخطاب الرباني أن كل المواضيع المغيبة عن العقل و المستحيلة الفهم عن طريق التحليل و الاستنتاج تكون دائما مدعّمة بتفاسير تحدد منطقيا طبيعة الاستحالة و أسبابها الشرعية التي يتقبلها العقل بارتياح ويقتنع بحتميتها لتفادي أي خلل يمكن أن يتسبب في زعزعة الثقة و ارتباك العلاقة المثالية التي يبنيها القرآن مع مخاطبه.كتاب الله يجادل العقل برفق شديد و يساعده على تخطي كل العقبات بخطابه المبني على الدقة و الضبط الحسابي و أسلوبه المنطقي العقلاني الذي يمكّن الإنسان رغم تواضع إمكاناته من تحقيق المستحيل و إدراك الحقائق الغيبية المجردة و الاقتناع بها كحتمية لا جدال فيها شريطة أن يرتفع ذالك الطرف إلي المستوى المطلوب .

كوارث عديدة تسببت في دمار أمة كبلها زبانية الدين عن طريق تقاليد فكرية عقيمة واهية متسلطة وطقوس قديمة خاوية فقيرة شلت حركة الخلق و الإبداع بحجة الوفاء للسلف الصالح فأبعد العقل و أغلق باب الاجتهاد ونسفت الحريات و تآكلت المجتمعات.

مركب الخوف من العقل و التحسب من المنطق و العقلانية و العلمانية دخل في إطار التقاليد الفكرية لدى أغلبية علماء الإسلام وقد تبين ذلك بوضوح تام من خلال موقفهم الشنيع المتمثل في تنازلهم عن ارفع وسائل التحليل و البحث و الاستنتاج وهو العقلانية باعتبارها وسيلة الكفر و الإلحاد و اعتبار الأسلوب العقلاني منبع الكفر و الإلحاد يتبرؤون منه كما يتبرؤون من الطاعون . رفض العقلانية من طرف هؤلاء يعود إلي تدنّي مستوى التفكير و ضعف الخطاب و عجزه عن مواجهة متطلبات الحوار المنطقي والحقوق المشروعة في فهم و إدراك التعاليم الدينية فهما سليما .العلمانية هي الطريقة الأساسية للبحث و التحليل و الاستنتاج التي تخص العلوم المادية الصحيحة وأحيانا العلوم التجريبية وهذه الطريقة لا يمكنها مطلقا أن تهم الميدان العقائدي فكيف يعقل أن نعتبر الملحدين علمانيين وهم أبعد الناس عن العلمانية.

لقد ثبت أن أبعد عقيدة عن العقلانية هو الإلحاد لأنه لا يعتمد أي أثر لدليل أو أي نوع من الافتراض ليقف عند الاختيار المجرد التي تقره ميول النفس وأهواءها. فهو إذا أفقر ما يتخذه الإنسان من قرارات خلافا للعقيدة الروحية التي تدعمها افتراضات واقعية و حقائق حدسية عميقة أي المنطق التلقائي الذي يبرز في شكله البدائي والذي يجعل هذه العقيدة أقرب من سواها إلى الحكمة و الصواب أي إلى العقلانية.

Laisser un commentaire