المقدّمة

الاختيار المادي أسس لبناء مجتمعات استهلاكية معرّضة لأخطر المشاكل لأن علاقتها بمشروع وجودها و بمحيطها المباشر مهددة بالاختلال طال الزمن أو قصر و ما نراه اليوم من أزمات هي النتيجة الطبيعية لذلك الاختيار الذي قلب الموازين المنطقية لمشروع الوجود برمته و رمى بالإنسانية في أتون التآكل. قضية إصلاح الأوضاع و تعديل مسار المجتمعات الاستهلاكية تتطلب إمكانات اديولوجية عقادية متطورة فاعلة قادرة على التأثير العميق في العقول و القلوب و إقناعها بحتمية التخلي عن اختياراتها المادية و اكتساب وسائل تكون أقرب إلى الحكمة و أوفر حظ من غيرها في حماية مصير البشرية. التقييم الموضوعي للحضارة الغربية يدل على أنّ الإنسانية لم تبلغ درجة وعيها و أن إنتاجها الحضاري لا زال رديء المستوى وذلك التخلف يبرز من خلال سلوكها و مواقفها لأن الحضارة لا تقاس بالتطور المادي و التقني بل بالقيم الأخلاقية السامية التي ترفع الإنسان إلى أعلى درجات الرقي وتعطي للحياة بعدا حضاريا ذا مستوى. ما نلاحظه اليوم من سلوك يدل على ارتباك نسق التطور وخروجه عن مساره الشرعي مما يدل على انزلاق البشرية نحو شكل جديد من الجاهلية يدعمه العلم المادي و التقنية التي وقع توظيفها في سبيل الرغبات الضيقة مثل الأنانية والهيمنة والغطرسة و الظلم المتفشية خاصة لدى المجتمعات التي تدّعي التطور و التحضر. هذا الداء الخطير سوف يأتي على كل شيء و سوف يعيد البشرية إلى سالف وحشيتها.المجتمعات الغربية واعية تمام الوعي بخطورة أوضاعها الراهنة والنتائج الوخيمة التي تنسجها الأزمات الاقتصادية الضارية ومدى سلبيتها لكنها لا تدرك الأسباب الحقيقية التي عصفت بها و التي تعود أصلا و فصلا إلى اختياراتها الأساسية و إلى طبيعة النظام المادي الذي فرضت تعميمه.

 

الاختيار المادي يبني معادلة و وجودية مقلوبة تعكس العلاقة بين وسائل الحياة و أهداف الحياة بل تذهب إلى أبعد من هذا فهي تركز كل اهتماماتها حول الوسائل و الطقوس المعيشية و تهمل كليا الأهداف التي خلق الإنسان من أجلها. هذه المعادلة غريبة و مختلة العناصر لا تحرر الإنسان بل تسعى إلى تكبيله و استعباده و نسف قدراته وإخضاعه لسلطان الحاجة و التبعية المتزايدة بحجة توفير المتعة و الترف. الحضارة المادية تنمّي رغبة الاستهلاك أي الأنانية و حب التملك والتكالب على الكسب و الهيمنة و حب الذات و الجشع و النفاق و غيرها من الرذائل التي تنحدر بالإنسان إلى أذل المستويات و تدفعه إلى التحايل على القيم الأخلاقية و إخضاعها لسلطان الرغبات أي النسبية و تعددية المكيال و هذا ما يحدث اليوم في العلاقات الاجتماعية و الدولية السافرة و المقنعة مما يدل على ضخامة الأخطار التي تتهدد المصير البشري و انهياره المحتوم . رغم ما تحقق من تطور و تجارب لم تعي الإنسانية إلى اليوم مكانة القيم الأخلاقية و دورها العظيم في تحديد المصير. ارتكزت الديمقراطيات الغربية على التطبيق الحرفي لمجموعة يسيرة من القيم الأخلاقية باعتبارها وسائل عمل تدعم البناء الاجتماعي دون وضعها في إطارها الشرعي كقوانين علمية عملية كونية حاسمة بالنسبة لنجاح مشروع الوجود برمته مما يتحتم المحافظة عليها و احترام وحدتها و شموليتها و عدم اخضعها للأهواء و الرغبات الآنية أي للنسبية و تعددية المكيال.ذلك الخطأ في تقييم عنصر الأخلاق تسبب في انهيار كافة الحضارات التي توالت على هذه البسيطة بما في ذلك ما سمي بالحضارة الإسلامية وقد نلاحظ بروز بوادر الانحطاط التي تهدد حضارة الغرب في زمننا هذا و تعرضها لنفس الظاهرة ولنفس الأسباب . المصدر المعرفي الوحيد الذي وضع الأخلاق في إطارها الشرعي كقاعدة أساسية لبناء مشروع الوجود و ضمان نجاحه هو الإسلام الذي ارتكزت معادلته كليا على القيم الأخلاقية السامية والتي مع الأسف الشديد لم يدرك المسلمون أبعادها وعظيم دورها.

نظرا لخطورة الأوضاع التي تمر بها المجتمعات الإسلامية و الإنسانية في عصرنا هذا فقد تحتم إعادة قراءة الإسلام منبع المعرفة التي تساعدنا على إصلاح أوضاعنا أولا و المساهمة في حماية البشرية مما آلت إليه من أخطار تهدد توازنها في مرحلة ثانية.

لقد فشل التفكير الإسلامي في تحديد المفهوم العلمي للمعادلة الضخمة التي و ضعت على ذمتهم و ارتبكوا في قراءتهم للعلاقة التي تربط الوسائل العملية بالأهداف و اكبر دليل على ذلك الفشل المقيت هو الانهيار المبكر لحضارتهم ثانيا انحدار المجتمعات وتخلفهم المتواصل منذ قرون و ثالثا وهو الأمرّ هو عجزهم التام في تعديل مسارهم واستنباط الحلول الكفيلة بإخراج شعوبهم من المأزق ودفعهم نحو التطور الذي يمكنهم من استرجاع مكانتهم بين الأمم.

أخطر ما وقع فيه المسلمون من أخطاء يتمثل في رصد كل طاقتهم واهتماماتهم حول العقيدة الأساسية التي استحوذت على كل المقدرات وقد تعاظم تركيزهم إلى حد التضخم و الإفراط و التعقيد الذي يوشك أن يحوّل العقيدة التوحيدية التي جعلها الله أهم و أعظم عنصر تحرر و انعتاق و تفتح و تطور و خلق و إبداع إلى كابوس يثبط حركة النفس و التفكير ويحد من حريتها و تلقائيتها. ذلك التركيز المفرط حول العقيدة و تكثيف أساليب العبادة و طقوسها ونوافلها و مستحباتها وأفضالها و غيبياتها تسبب في إهمال و عدم التركيز علي القاعدة البنيوية الكبرى أي القيم الأخلاقية السامية التي يركز عليها الإسلام كل الطاقات و أعظم وسائل استيعابها و امتلاكها و تطبيقها و في مقدمتها العقيدة ذاتها التي يحولها بالتدرج من مرتبة الغاية إلى مرتبة الوسيلة البنيوية. الدليل القاطع على فشل القراءات الإسلامية أصبح واضحا مرئيا . في المساجد ترى المسلمين ملائكة في خشوعهم و ابتهالاتهم و بكائهم. أما في إطار علاقاتهم الاجتماعية و المهنية و الأسرية و الاقتصادية و المدنية و السياسية و غيرها فانك ترى العجب العجاب. ما هو سبب ذلك الاختلال الفظيع وذلك التناقض الجذري بين العقيدة و السلوك. هل يعود ذلك إلى فساد جبلّة المسلم؟ لا أبدا لأن إرادة السعي و الإخلاص و الفلاح متوفرة و زيادة لدى الفرد المسلم القادر على التطور و الرقي متى اقتنع بذلك. وهنا ندرك أن الخلل الفظيع يعود إلى أهل الذكر الذين أصابوه بقراءة مختلة التركيبة وقناعات خاطئة تتعارض كليا و تعاليم الإسلام لتحول دون تطوره و دون نجاحه في الدنيا و فلاحه في الآخرة لأن رذيل الدنيا لا يمكن أن يكون عزيزا في الآخرة.

« وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً »
الإسراء 72

الكارثة التي أناخت على المجتمعات المسلمة ليست وليدة عصرنا هذا بل هي متجذّرة في تراثنا و تقاليدنا و تاريخنا ظلت تلازمنا كظلنا منذ قرون عديدة لتدمر كل شيء وتقعدنا و تحول دون تحقيق ما قدره الله لنا من رفعة و كرامة.التراث الشعبي بما يحتويه من أحاديث مختلقة و أقاصيص و خرافات و نوادر غريبة جعلت الأمل في النجاة و الدخول المباشر للجنة أمرا مفروغا منه. الإفراط في الطمع في رحمة الله و عفوه الشامل أقعد الكثير عن العمل في إصلاح أوضاعهم وحماية مصيرهم من الدمار وتسبب إلى حد بعيد في تحييد و شلل المسؤولية الفردية و هي الطامة الكبرى.لماذا يكلف المؤمن نفسه مشقة السعي و الاجتهاد في إصلاح أمره ما دام قد ضمن تخطي الجحيم بمروره على الصراط مرّ السهم ممتطيا كبشا أقرن لينتقل مباشرة إلى الفردوس.من السذاجة أن يتجاوز المؤمن حدود رب العالمين و يستهتر بسنن و شرائع و قوانين جعلها الخالق قاعدة لمسار مشروع خلقه وألزم ذاته العليا بالتمسك بها و تطبيقها حرفيا دون حيف. النص القرآني ينبض بهذه التأكيدات التي تجعل عفوا لله و عونه و غفرانه مطابقا للحق و العدل أي استحقاقية.

القراءات السارية حاليا لا تناسب التمويل الإسلامي وهي غير قادرة على موازاة صيغه السريعة التطور و التحول و ذلك يعود حتما إلى ضعف الإمكانات الفكرية و تدنّي مستوى النضج مما يجعلنا نؤمن أن ما حققه السلف من تطور حضاري مهما بلغ شأنه لا يناسب البرنامج التنموي الذي وضع الإسلام ركائزه .ذلك التطور رغم ضخامة إنتاجه لا يتجاوز إطار التجربة المحدودة في الزمان و المكان و قد ثبت أن ذلك الإنتاج لم يرتكز على التطبيق الحرفي للمعادلة الإسلامية وإنما عن طريق شخصية الرسول ‘ص’ و تأثيرها الهائل على السلف من الناحية الأخلاقية . البناء السليم للدولة بمجمل هياكلها ارتكز على مجموعة القيم الأخلاقية المستمدة من خلق الرسول الكريم و بالطبع تحقق النمو و التطور الهائل الذي لم يتواصل لأنه حدث عن طريق التقليد لا عن قناعة السلف بحتمية المحافظة على أسس بناء حاسمة ومصيرية دونها الهلاك و الفشل. انبهار السلف بشخصية محمد ‘ص’ و أصحابه البررة كان له الأثر العميق في مواقفهم و طريقتهم في التعامل مع الرصيد الديني برمته باعتمادهم السنة أي التطبيق الحرفي للتقاليد التي أخذوها عن مثلهم الأعلى ومرجعهم الأول و الأخير النبي المصطفي تحسّبا من الخطأ و الضلالة. ذلك التعلق الشديد بتقاليد السنة والالتزام بها بصفة دائمة له محاسن جمّة لكن الوقوف عندها و اعتمادها كطريقة وحيدة في التعامل مع الإسلام كان له اثر سلبي للغاية تمثل في إقصاء العقل عن حظيرة المعرفة و التحليل العلمي والمنطقي للرصيد الإسلامي الشديد الحركة بما تمثله صيغه التفوّقية العارمة من تحول و ما تفرضه من يقظة مستمرة لموازاة نسق تطورها و رقيها الدائم. إقصاء العقل تسبب للمسلمين في الكارثة الكبرى التي لا زلنا نتحمل نتائجها الوخيمة إلى يومنا هذا. في القرن الرابع للهجرة بلغ رقي المسلمين أوجه ونمت المدارك الفكرية بسرعة هائلة وتطور التفكير و تعاظمت احتياجاته كمّا و كيفا من الناحية العقائدية خاصة و وبرزت الأسئلة المحرجة مطالبة أهل العلم و المعرفة بتوفير ما يفرضه العقل من قناعات أساسية لتدعيم توازنه العقائدي و الوجداني والثقافي و الاجتماعي.أهل الذكر الذين ظلوا متمسكين بما توفره تقاليدهم من ترف عقائدي مصدر توازنهم وطمأنينتهم و ركودهم لم يتمكنوا من مسايرة التحوّل الذي طرأ فجأة على المجتمع و لم يدركوا أن الأحداث قد تجاوزتهم . عوض بذل ما تفرضه الأوضاع من مجهود لاحتواء تلك الأزمة العنيفة وقفوا موقف العاجز أي المعارضة و الاستنكار و السخط لينحدروا إلى ما أدهى من ذالك أي الرفت و الإقصاء و التكفير ثم الجزر و التعنيف و العقاب الشديد التي سخرت لها كافة وسائل الردع الرسمية. هكذا حدثت الطامة الكبرى و تصدع البناء ونشأت النحل و الطوائف و الشيع و السلفيات و التطرف و العنف التي أتت على الأخضر و اليابس لترمي بالأمة في دوامة الفتن والتناحر و الانقسام و التشتت وتحركت شياطين الإنس متسترة بقناع الدين لتحطم أواصر خير أمة أخرجت للناس و ترمي بها في عيابات التخلف و الانحطاط والدمار المتواصل.

الإسراء الإسراء

Laisser un commentaire